ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


الجمعة، 31 ديسمبر 2010

أحلام على وجه العام الجديد

أحلام على وجه العام الجديد "

" قد إيش كان في ناس ......... عالمفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملوا شمسية وأنا بأيام الصحو ماحدا نطرني " ها نحن في ديسمبر ، ينبعث الصوت الفيروزي من المذياع ناشرا دفئا محببا رغم زخات المطر ، ربما لأن شتاء الإسكندرية ليس كأي شتاء آخر ، دفء منبعث من نسمات الأبيض المتوسط ، أو
ربما من أنفاس البشر المنتشرين ، أضواء المحال ، والملابس الشتوية الأنيقة المعروضة ، مرآها وحده كان ينشر في نفسي وروحي الدفء ، وكأن شوارع الإسكندرية بطانية كبيرة تحتويني ، بطانية مزدانة باللون الأحمر ، زينة أعياد الكريسماس التي اقتربت ، وجوه باسمة لبابا نويل تطل من جميع الواجهات بذقنه القطنية البيضاء الدافئة وطرطوره الأحمر المبتهج ، وبسمته الحنون التي تعد بتحقيق كل الأحلام ، تنتصب وراءه شجرة الكريسماس المتلألئة بعشرات النجوم الفضية والكرات الذهبية والحمامات البيضاء . للهواء رائحة منعشة ، لقطرات المطر التي انزلقت من السماء منذ قليل ، أو تلك المختبئة بين الغيوم تنتظر اللحظة المناسبة ، و في الميدان الكبير المتسع "لمحطة الرمل" ، حيث تتغلغل رائحة الفيشار الطازج في الأنوف ، يغدو كارنفال حقيقيا للوجوه والملابس والمحال ، المارون كثيرون ، شباب يتمهلون أمام أبواب السينمات المتجاورة ، ينقلون أبصارهم بين الأفيشات الضخمة ، يتناقشون معا ، ينتقون أخيرا ثم يتوجهون إلى شباك التذاكر لحجز أماكنهم ، أسر تتجول بين المحال المختلفة ، فتيات يتنقلن كنحلات نشيطات بين تلك الموائد المفروشة على امتداد الشارع بالإكسسوارات وأدوات التجميل ، والكتب والمجلات ، والبوسترات الملونة للفنانين والفنانات وتقاويم العام الجديد . أتمهل مع صديقات الجامعة أمام تلك الرزم الصغيرة ، روزنامات صغيرة بحجم أوراق اللعب ، يحمل وجهها الأول صورة ، والوجه الآخر كل أيام وساعات ولحظات العام الجديد ، أقلب التقاويم والصور ، و أرقب بطرف خفي ما يختاره الآخرون ، كل صورة كانت تحمل معنى وإحساسا ، وذكريات ، و آمالا مؤجلة ، آمال تتضرع إلى العام الجديد أن يكون هو عامها المنشود ، عام تحقق الأحلام . أسهم تخترق قلوبا حمراء ، أياد متشابكة لعشاق صغار ، زهور ونباتات ، فراشات ، صور للفنانين :عرب وأجانب ، نماذج مصغرة للوحات شهيرة ، ألمح صديقتي تختار وجها لطفل صغير ينبع من عينيه نهران من الدموع ، أتعجب لاختيارها، وسرعان ما أتذكر السبب في الحزن النائم في عينيها ، حين تخرج تقويم العام الماضي ، كان هو من أهداها ذلك التقويم ، اشترياه سويا من نفس البائع ، صورة لطفلين صغيرين مشبوكي الأيدي والنظرات ، على ساعد الفتاة الصغيرة وشم لقلب كتبت فيه كلمة ( love) ، و أسفل الصورة كلمات باللغة الإنجليزية " معك أشعر بالأمان .......... لأنني أثق بك " انقبضت أصابعها فوق التقويم القديم تعتصره ، طوحت به بعيدا لتدهسه أقدام المارة ، وكأنها بذلك تطوي عاما كاملا من حياتها ، لكنني لمحتها تبحث بعينيها في التقويم الجديد عن تاريخ ميلاده ، وهي تستعيد كل الذكريات ، أحاول الانشغال عنها بالبحث في الصور عما سأختاره هذا العام لنفسي ، تنفلت مني ابتسامة وأنا ألمح تلك المراهقة الصغيرة تشتري كل الصور التي يطل منها المطرب الشاب الجديد بأوضاع مختلفة ، أختار بعض التقاويم التي تحمل صورا لأطفال ولمناظر طبيعية ، أبتعد أنا وصديقاتي وكل منا تمسح بعينيها تواريخ العام الجديد ، يحمل لها كل تاريخ حلما تتمناه ، هنا سيكون الاحتفال بعيد ميلادي ، وفي هذا التاريخ ستبدأ الامتحانات ، أما في ذلك التاريخ سأكون قد حصلت على شهادتي الجامعية ، حلم التخرج الذي روادني سنينا ، سيتحقق أخيرا ذلك العام ، تاركا الفرصة لأحلام جديدة كي تنبت ، وتشغل العقل والقلب والروح . خالي يحلم أن يكون العام الجديد هو عام زواجه من خطيبته الجميلة ، و صديقتي الأخرى تنتظر التخرج ليتقدم حبيبها بطلب الزواج ، جدتي تتمسك بالحياة من أجل أمل بعودة ابنها المسافر واستقراره بجانبها ، وأبي يتمنى أن يحقق له التقاعد راحة وهدوءا يحلم بهما منذ سنين ، أخي الصغير يأمل بدراجة تهدى إليه في ذلك العيد ، وجارتنا العروس تهفو إلى مولود جميل تستقر صورته الصغيرة بجانب صورة زفافها الملونة . كانت تلك هي أمنياتنا المشروعة ، بسيطة ومتواضعة ، كتلك الكلمات التي كنا نتغنى بها : " بأحلم على قدي بشراع يعديني بشموع تدفيني بعيون تصون ودي"

الجمعة، 24 ديسمبر 2010

بأقل قدر من الضجيج: انعكاس الظل

انعكاس الظل


كمرايا غرف القياس المتقابلة ، كانت تتطلع لانعكاساتها بلا نهاية ، هكذا رأت حياتها، ساعات ودقائق منشطرة بلا تساو محدد بين أحداث الواقع و الحلم . في البداية كانت تظن الجميع مثلها ، أو أن أحلامهم تشبه أحلامها ، لا تتذكر متى انتبهت للمرة الأولى إلى اختلافها ، شعرت بالذعر في أوقات حين تطاردها أشباح الواقع في أحلامها ، أو حين كانت تعلق بين تلك المنطقة الوسطى بين العالمين ، لحظات تعجز فيها عن التمييز أو الإدراك ، لحظات تخشى فيها أن تعلق في إحداهما ويضيع منها الآخر تماما ، لكنها وبإحساس فادح بالظفر ، بظفر عميق لمن يمتلك معرفة خاصة يجهلها الآخرون جميعا ، وبعمق السر في أعماقها ، صارت تحرص على تلك المقدرة العجيبة في حواسها وأعماقها المظلمة ، المقدرة على الحلم ، على امتلاك حيوات أخرى ، القدرة حتى على ابتكار أحلامها الخاصة ، وخلق شخصيات وأحداث من نسج عقلها وإرادتها .
، في البداية لم تكن تمتلك تلك القدرة على تطويع أحلامها ، أو الإدراك لأي العالمين ، إنها حتى لم تكن تدرك قدرتها على نقل أحلامها إلى الواقع ، السيطرة على الآخرين ،أو على الأحداث من حولها ، التغيير كان يحدث معها باستمرار ، ،وبتطور أحلامها كانت تتغير قسماتها في الواقع ، أدركت أنها وقعت عقدا معه ، ذلك الظل الأسود داخلها ، كان عليها الغوص أكثر ، والقبول بكل الشروط . حتما حاولت المقاومة في البداية ، بيقين داخلى ، بكل التوق إلى الملائكية في أعماقها ، لكنهم جميعا كانوا جنودا له ، كانت المؤامرة المنسوجة حولها بإحكام في كل لحظة لمسخها وتشويهها ، لجعلها صورته المتجسدة ، وهو كانت له سيطرته التامة في أوقات كثيرة ، حين يجثم على روحها بكوابيس مظلمة ، يطاردها في ردهات عقلها وذكرياتها ، يوقظ نسله داخلها ، أو يتكاثف بأعماقها ،يتسلل إلى رئتيها ، يغشى حدقتيها فلا ترى إلا من خلاله، فتشرع في التحول إلى كائن ما ليس بشريا تحديدا ، كائن قادر على الانتقام بأبشع الصور ، على تدمير ذاته تماما. اضطرت للاعتراف بأنه  كسب عشرات الجولات معها ، لكنه لم يستطع أبدا تحقيق نصره النهائي ، كانت دائما تجد منفذا ما ،تبحث عن ترياق يطيل أمد الصراع أكثر،  ربما بقايا روحها البشرية القديمة التي انزوت في ركن ما مجهول ، لم يستطع أبدا الوصول إليه ، ولم يكف للآن عن المحاولة

الجمعة، 17 ديسمبر 2010

ساعات السفر أو ثلاث نهايات للحكاية

ثلاث نهايات للحكاية

(ساعات السفر)
 
         السفر.. كلمة كان لها وقع غريب على أذنيها ، ستسافر وحدها, أخيرًا.
          الأيام التي سبقت موعد السفر, كانت كالدهور بالنسبة لها, لم تعد تفكر أو تتحدث إلا عن ذلك اليوم. في الليلة السابقة لموعد السفر, لم تذق النوم, وحين غلبها النعاس للحظات رأت نفسها تتأخر عن الموعد, والطائرة تحلق بعيدًا من دونها.أطلقت شهقة خافتة, انتفضت, هبت مذعورة من مكانها, عاودت تفحص حقيبتها الصغيرة, أوراقها, ودعت الجميع وانطلقت إلى المطار قبل موعدها بساعات.. لم تتوقف عن التمتمة والدعاء.. تتمنى أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد نفسها هناك.. في ذلك البلد البعيد.. والغريب عنها تمامًا. حين ركبت الطائرة تفحصت الوجوه حولها.. معظمها وجوه مألوفة, الابتسامة الشجية نفسها, قسمات التعب القديم نفسها. أدارت وجهها تجاه النافذة.. أرسلت بصرها خلال السحاب, ثم خلال البحر.. تتلهف على الوصول إلى الشاطئ الآخر منه. حين نزلت من الطائرة.. ابتسمت حين رأت من حولها كل الوجوه الغريبة.. أخذت نفسًا عميقًا من الهواء الجديد, لكنها لم تكد تخطو خطوات قليلة حتى شعرت بمرارة تملأ حلقها. تذكرت دعابة مواطنها الجنوبي, لم تستطع السخرية منها, كعادتها وهي تبحث في حقيبتها عن بعض حبات السكر.. وجدت يده تمتد لها بقطع السكر.. لم تعترض حين عرض عليها أن يقتسماها معًا. طيلة ساعات السفر .. كان وجهًا وحيدًا مألوفًا.. وسط كل الوجوه الغريبة.

***
          حين جلسا سويًا على شاطئ البحيرة.. كان المساء.. الصفحة الساكنة الأضواء المتلألئة على الجانب الآخر.. كم كان عددها          سألها أن تلقي عملة معدنية في المياه, تغمض عينيها, تهمس بأمنية, حفرا اسميهما على الرمال.. وعلى صخرة صغيرة دفناها في الرمال.
          طلب منها أن تتذكر مكانها, تستخرجها منه حين تعود مرة أخرى, ومرة أخرى.
          كان هناك موعد جديد للسفر. في المطار.. زيّن كراساتها بكلماته.. أهداها وردة حمراء.. ثم لوح لها كثيرًا حتى صارت طائرتها نقطة سوداء في الأفق.. ما لبثت أن اختفت تمامًا.

نهاية1

          ظل بصره معلقًا بالسماء لحظات أخرى, أما هي فلم تكف عن قراءة كلماته في كراستها, أو تحسس الوردة النائمة فيها, وهي تستعيد كل اللحظات التي قضياها معًا. حين نزلت من الطائرة, كانت كل الوجوه حولها مألوفة, لكنها شعرت بطعم المرارة يتضاعف بداخلها. خطاباتها إليه كانت تستقر, بعد قراءتها أسفل وسادته, خطاباته إليها كانت تستقر في دولاب والدتها دون أن تقرأ منها حرفًا. كان هناك ذلك الوقت الذي كف كل منهما فيه عن إرسال الخطابات, ربما كان يتذكرها كلما مر بالبحيرة في المساء. ربما ظلت تتذكره كلما قلبت أوراقها فوجدت كراسة بها كلمات عذبة, ووردة ذابلة, أو كلما سمعت دعابة المواطن الجنوبي عن الغربة.. وحبيبات السكر.

نهاية2

          ظل بصره معلقًا بالسماء للحظات أخرى قبل أن يمضي إلى ممر آخر, يستقبل طائرة قادمة, بها وجه مألوف يبحث عن وجه مألوف وبعض حبيبات من السكر.وهي, تعددت البلدان الغريبة التي سافرت إليها.. تعددت الوجوه المألوفة التي سكنت إليها.. وتقاسمت معها حبيبات السكر طيلة ساعات السفر .
          ربما لم يتذكرها أبدًا.. ربما تذكرته مرة حين أتت إلى البلد نفسه, أو هي تقلب كراستها المليئة بكلمات وورد.

نهاية3
          اختفت طائرتها تمامًا.. أسرع بإرسال أول رنين لها من هاتفه المحمول, فجاوبته برنين مماثل.




الأربعاء، 8 ديسمبر 2010

باب بيتنا وشارعنا وأشياء أخرى

باب بيتنا و شارعنا وأشياء أخرى

أشياء صغيرة

باب بيتنا مفتوح دائما، فنسينا أن للبيت باب.
باب بيتنا المفتوح دائما يترك بينه و بين الحائط فراغا مثاليا لإخفاء أشيائنا الصغيرة , تلك التي كان بإمكانها أيضا الاختفاء أسفل الدرج "خلف دراجة بائع الأنابيب القاطن بالدور الأسفل  أو دراجة بائع السمك القاطن بالدور العلوي.
خلف الباب المفتوح و أسفل الدرج المظلم  كانا من الممكن أن يظلا دائما أفضل مخبأ لأشيائنا الصغيرة ، لكن اختفاء شيء واحد كان كافيا لكي تتلاقى عيوننا بحثا عن مخبأ جديد ، فتصطدم بذلك الفراغ الصغير في الحائط .
فراغ صغير مظلم تخلف عن حجر انتزع من مكانه , ولم يعد له أبدا ، فراغ كان موجودا دائما ,دون أن نلتفت إليه ، ليس له باب مغلق لكنه كان كافيا جدا لتستقر به ( البلي, أغطية الزجاجات الفارغة , وأحجار خمسة)  نلعب بها "لعبةالمال" 
_  تلك اللعبة تجلب الفقر                                                 
هكذا قال آباؤنا؛ فأخفينا عنهم أحجارنا الصغيرة في مخبئنا الصغير.
كانت هناك تلك المرة الأخيرة التي أخفينا فيها أشياءنا الصغيرة في فراغنا الصغير المظلم لننساهما معا  الأشياء  و الفراغ ، في مرة أخرى أدركنا أن الفراغات الصغيرة المظلمة تصلح لإخفاء علب التبغ و أعواد الثقاب ,يخفيهما أخي الأصغر عن عيني والديّ ، ووالدي يمنحه الآن علب التبغ الأجنبية , التي يجدها على المراكب الآتية من الجانب الآخر للبحر ،  ليس لأن أبي لا يدخن ، 
و لكن لأن أبي لا يدخن سوى التبغ المحلي.
والفراغ الصغير المظلم أفسح مكانا جديدا لأصابع تلوين الشفاه أخفيها عن عيون أخي الأكبر . أخي الأكبر منع أصحابه من الحضور لاصطحابه من أمام باب البيت المفتوح , كان ذلك حين التقط له أحدهم صورة وهو واقف أمام البيت فبدا كمن يقف أمام باب مغارة ، فالصورة أظهرت تلك الشقوق والفتحات والطلاء البالي للجدران , أظهرت تلك التفاصيل التي لم ننتبه لها من قبل، ربما لأننا لم نحاول ولو لمرة إلقاء نظرة على البيت من الخارج.

(24 ) شارع البقلي

24 هو الرقم المكتوب على باب بيتنا و على صندوق المهملات الجديد القائم أمامه ،  صندوق المهملات الجديد قائم أمام باب بيتنا بلونه الرمادي وغطائه الأزرق , منتصب كعساكر الأمن المركزي ، أو البواب الذي لم يكن لدينا أبدا. أسرعت أمي فجمعت بعض فضلات الطعام , وضعتها في كيس محكم الغلق عمّرت به الصندوق الجديد ، الصناديق الجديدة أظهرت مدى ضيق شارعنا واقتراب أبواب بيوته من بعضها البعض , أضفت  جوا غريبا على الشارع و الناس، فالشارع أزال عنه الكنس المستمر ترابه القديم , فأظهر الحفر و الشقوق و الأرض المتعرجة , أما الناس فقد قام كل منهم بوضع رقم بيته على الصندوق الذي أمام الباب تأكيدا للملكية ، وإمعانا في التأكيد  أخذوا يتفننون في إضافة الكلمات والرسوم والألقاب الغريبة على الصناديق , كان كل رسم جديد صكا من صكوك الملكية , وإعلانا بالحرب على كل من يتعدى عليها ،  الجزار القاطن بآخر الشارع طبع كف الدم الشهير على صندوقه ,أما بائع الدراجات فربط الصندوق بجنزير حديدي في باب بيته .
 في الأيام التالية , تغير شكل الصناديق تماما , لم عد ترتدي الزي الرمادي الموحد أصبح هناك مهرجان حقيقي للرسوم والألوان.
في أحد الصباحات استيقظ أهل الشارع على أصوات عالية بدأت بصراخ امرأة وجدت متسولا نائما في الصندوق حين فتحته في الصباح .
ربما يعني هذا أن الصناديق المصفوفة أمام أبواب البيوت , من الممكن أن تسكن في المساء بأشخاص حقيقية .

شارع "البقلي"

ذلك هو اسم شارعنا , تراه مكتوبا على لافتة خضراء مصلوبة في أوله أو آخره , يتوقف ذلك على الجهة التي تختارها للولوج إليه أو الخروج منه  , مكتوب أيضا في البطاقة الشخصية , في الاستمارات التي نملؤها , والفواتير التي ندفعها ,على مظاريف الخطابات التي نرسلها أو نستقبلها ، يخطئ في لفظه و كتابته من يجهلونه ، أما نحن من نعرفه جيدا فلن نستطيع إخبارك عن معناه لأننا نجهله.





الأبواب المغلقة  والخزائن ذات الأقفال أماكن تصلح لإخفاء الأشياء الكبيرة ,  تصلح أكثر للإغواء بفتحها , وكشف كل ما فيها.
هكذا خطر ببالنا.
لذا حين كبرت أشياؤنا , قررنا أن نظل صغارا؛ ربما لأن الكبار وحدهم يجرؤون  على كسر جميع الأقفال , وفتح كل الأبواب المغلقة , لكنهم لا يجرؤون أبدا على مد أيديهم داخل فراغ صغير مظلم مفتوح دائما.

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

مقالي عن رواية "سيدي براني" في جريدة القبس 5/12/2010

"سيدي براني"
حيث الحكاية تمنح الحياة لأصحابها
من يمتلك سحر الحكاية يمنح الخلود،ومن يفرط في حكايته يموت،عبارات تتردد كنبوءة،وكلحن حزين ومنذر على مدار فصول وحكايات تحتشد بها رواية "سيدي براني" للكاتب المصري"محمد صلاح العزب"،ولأنها روايته الرابعة،استطاع فيها العزب بلورة اتجاه مطرد في كتاباته ،يمزج الواقعي بالأسطوري في مهارة ومرونة صياد بارع ،ينسج خيوط شبكة من الحكايات توقع كل من يجرؤ على الولوج إليها.
" وما دمت قد دخلت فلن تخرج ... حتى تشق قلبك بسكين كبير من الداخل ..شقا يتسع لخروجك "
يفتتح " العزب" أول فصول رواية " سيدي براني" الصادرة عن دار "الشروق"، بذلك التصدير للفصل الأول منها ،ورغم التحذيرات نقبل بابتلاع الحبة الحمراء، حيث الذهاب بلا عودة،فيدخلنا "العزب"عالما من الحكايات الواقعية والأسطورية في حلقات متتابعة تصيب بالدوار، حكايات عن حيوات الجد المتعاقبة بلا موت يدوم ، وحكايات أخرى جانبية كثيرة نقع تحت سطوتها ، ندور في دائرة لا نكاد نصل لنهايتها حتى تبدأ من جديد بأسلوب الحكي الشفاهي الذي يعيدنا إلى التراث الأدبي الشعبي ،فلا يدرك شهر زاد الصباح إلا بعد وعود بمساءات جديدة تعيد فيها الكلام المباح ، تدخلنا غابة سردية متشابكة الدروب، نبحث فيها عن طريقة للخروج بلا جدوى. وبسرد شديد التكثيف،يعيد صاحب" سرير الرجل الإيطالي" و"وقوف متكرر" للكتابة الروائية وظيفتها القديمة في الإمتاع والتسلية،بلغة تحمل جمالياتها الخاصة،وخيال خصب متدفق يمنح الحكايات سحرها وإغوائها ، وبرغم تنوع الحكايات واختلاف شخوصها، ورواتها أيضا،ينسجها الكاتب في خيط رئيس هو "حكاية الجد " تتفرع منه باقي الحكايات الجانبية،وتصديرات تعنون كل فصل جديد لتنتج في النهاية نصا واحدا موحيا ومؤكدا على أن متعة السرد والحكي هي الأساس وهي الغاية والوسيلة معا.
الراوي هنا هو الحفيد الذي مات والداه ،فكفله جده المقيم في "سيدي براني" بالرعاية ،ليجد غايته في النهاية هي نقل الحكايات التي يسمعها،حكايات جده الأسطوري المهيب الذي عاش عدة حيوات سابقة (ثلاثة عشر حياة ) كان فيها دائما هو الحاكم والآمر والمسيطر على كل ما حوله في جزر وأماكن خيالية تماما وبلا أسماء،وفي كل ميتة كان ينصب له ضريح يحمل اسم "الشيخ " فقط فلا يعرف له أحد اسما حقيقيا ،ومن خلال أربع حيوات فقط  تتضمنها "سيدي براني" و يعرفها الحفيد من خادم الجد "سمعان" (وكأن الاسم يلقي ضوءا على وظيفته وهي  الإنصات إلى حكايات الجد)،تصيبنا الحيرة في توصيف هذا الجد الذي يجمع بين الصفات المتناقضة ،هل هو تقي صوفي يستحق القداسة التي منحها له الآخرون ،أم شيطان متسلط شهواني يتخذ من عشرات النساء متاعا على مدار الحكايات والحيوات. تلك هي الحكاية الأسطورية التي استمدت كثيرا من الميثولوجيا الإغريقية و فكرة تناسخ الأرواح الهندية، وعدة اقتباسات من كتاب "الطاو" .
أما الحكايات الجانبية والتي تدور أحداثها كلها في حياة الجد الأخيرة التي تمثل الجانب الواقعي في الرواية ،والتي تنقسم هي ذاتها لحكايتين وحياتين،فهناك أماكن محددة وواقعية " كالقاهرة"  وفرنسا حيث بداية الحكاية، ثم الاستقرار الأخير في " سيدي براني" ،حياة تتقاطع معها حيوات باقي الشخوص ،" سمعان ، طيبة ، غزالة ، الحفيد ،و مريم " وإن كان كل شخص آخر يحمل أسطورته الخاصة ويحكيها للحفيد الذي يقع تحت سطوة الحكايات.
من يملك حكايات أكثر يملك عدداً أكبر من المُنصتين، ومن يملك حكاية ساحرة يعود إليه من يحبهم مهما ابتعدوا عنه"
لكن لماذا "سيدي براني " تحديدا ؟ ربما لأنها مدينة حدودية صحراوية،فهي المكان المثالي لتكتمل منظومة الحكي الشعبي والأسطوري،ولتمنح ذلك الشيخ الغريب هالة الصوفية والغموض ليفرض سطوة لم تكن لتمنحها له مدن القرن الحادي والعشرين ،أو ربما لتتوحد أسطورته بـ"سيدي براني" الشيخ المارق الهارب إلى الحب والصحراء ،والمختفي بهالة أسطورية في نهاية الأمر وكأن "الجد" هو روحه العائدة لنفس المكان،أو لتتولد أساطير الحب المستحيلة في واحة حدودية ،هي مكان للعبور بين أماكن أخرى مختلفة (مصر وليبيا) الحضارة والبداوة،فيقع رجال المدينة المارون في عشق البدويات لكن " البدوية لا ينكحها إلا بدوي" فتنشأ الحكاية وتستمد نفس المفردات القديمة "العشق واللوعة والفراق".
وكما كانت وظيفة "سمعان" هي سماع الحكايات حتى إذا ما نتهت يسمح له الجد بالرحيل، تبدو مصائر الشخوص جميعا مرتبطة بهذا الجد يحركها ويوظفها لغايته كما يشاء، فيكون لقاء حفيده بمريم ، ووقوعها في حبه ،ليحكي لها الحفيد .
في حواره الوحيد مع جده ، ذلك الحوار الصوفي بين عقلين دون صوت ودون كلام ، يؤكد الجد أن حيواته المتعددة زادها هو الحكايات ، فبدون الحكايات يكون الموت الحقيقي ، وطالما الحفيد يحكي ، سيظل الجد حيا مئات المرات. يقول :
" صاحب الحكاية مثل نهر قادر على أن يغرق الجميع ، لكنه يرأف بهم فيطلقهم حتى يرووا ما سمعوه منه فيعيش أكثر"
فكما تتوالد الحياة من الموت ، تتوالد البدايات من كل نهاية ، فبرغم موت الجد ، ومغادرة الحفيد "سيدي براني " إلى القاهرة  يكون التصدير الأخير " وما دمت قد دخلت فلن تخرج" ويظهر وجه الجد في كل مكان محاصرا لحفيده ،وكأن روحه تعود للسيطرة عليه، في نفس لحظة لقائه بمريم ، فيختتم الرواي روايته بقوله "أنت لم تسمعي الحكاية من أولها يا مريم سأحكي لك"  ليمنحا الجد ، وجميع الشخوص الأخرى التحقق و الحياة مرات ومرات بلا نهاية رغم الموت والغياب.
" كل الحكايات حكاية واحدة ، والحكاية هي الأبد ، ومن يفرط في حكايته يموت ، ولا يموت إلا من تنقطع حكايته "
ثم ينهي " محمد صلاح العزب" روايته بإهداء إلى روح جده الحقيقي وكأنه يعيد كتابة سيرة عزلته الاختيارية في " سيدي براني ".
جيهان عبد العزيز

السبت، 4 ديسمبر 2010

مقال البديل عن مجموعتي القصصية "بأقل قدر من الضجيج"

“بأقل قدر من الضجيج” ..مجموعة قصصية تحن إلى أسكندرية الثمانينيات




تصدر قريبا عن دار “شرقيات ” للنشر والتوزيع المجموعة القصصية ” بأقل قدر من الضجيج” للقاصة المصرية  جيهان عبد العزيز ..وتقوم القاصة السكندرية بسرد  حيوات لشخوص حقيقية وأخرى متخيلة من خلال اثنتا عشرة قصة ، تتناوب فيها الأمكنة المختلفة أدوار البطولة مع الشخصيات ، حيث الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة ، ومتعة الحكي ، والتمشية في دروب الحكايات والحنين إلى إسكندرية الثمانينيات من خلال محطة الرمل وأغاني فيروز ومنير ومدحت صالح ، وأفلام يوسف شاهين ، وشعر صلاح جاهين في المقدمة التي عنونتها بـ” حواديت الشوارع” ، ثم رصد تغيرات المجتمع من خلال عيون طفلة صغيرة تحتفي بـ”الأشياء الصغيرة ” وتنسج حول ” الشحتة” الجار ذو الإعاقة العقلية أسطورة ذاتية للحنين والانتماء لبيته القديم . وتتراوح قصص المجموعة بين الحكي الذاتي والرصد لتحولات المدينة ، كما في “موسيقى الحجرة” و “باب بيتنا وشارعنا”  و بين الأسطورة الشعبية كما في قصة “العازف” أو العلاقات بين الأنا والآخر كما في ” الآخر” و ” فوبيا ” و ” ثلاث نهايات للحكاية” .
جيهان عبد العزيز من مواليد 1976م ، حاصلة على ليسانس الآداب والتربية جامعة الإسكندرية ، لها العديد من الكتابات والمقالات النقدية في الصحف والمجلات المصرية والعربية ، وشاركت بالعديد من الندوات والمؤتمرات الأدبية كالمؤتمر الأول للقصة القصيرة بـ آتيليه الإسكندرية 2000م ، وملتقى الثلاثاء بالكويت وغيره

حواديت الشوارع

"الشوارع حواديت ... 
حوداية الحُب فيها      وحوداية عفاريت"  
رغم عشقي المؤلم للحواديت ، واستئثاري بالقدرة على الحكي بين رفاق الطفولة والصبا ، رغم خروجي الدائم خارج حدود الجدران الأربع ، بالخيال غالبا ، كنت دائما طرفا غائبا عن المشاهدة العيانية لمغامرات الشارع وأحداثه ، شارعنا الذي يضيق قرب بيتنا ثم يترك لنفسه كل البراح بعيدا عنه ، تصلني أخباره وأحداثه من أفواه الجارات اللاتي يمتلكن شرفات خارجية تطل عليه ، بينما قدر لغرفتنا الوحيدة ألا تتطلع أبدا للعالم الخارجي ،  بنافذة  تشاركها الوحدة والانعزال ، لا تطالع سوى الأفنية الخلفية للبيوت الأخرى ، لذا فشجارات الصغار التي تتحول لمعارك بين الأسر ، الأفراح الشعبية ،  وأصوات الشارع والمارة ، المقيمين أو الدخلاء ، الفضائح والشائعات ، تصلنا  متأخرا جدا كمن يقرأ الجرائد القديمة ، أو بالتعبير الشعبي ، كنا آخر من يعلم .

( الشارع ده كُنَّا ساكنين فيــه زمان
كُل يوم بيضيق زياده عن ماكان
أصبح آلان ،
بعد ماكبرنا عليه
زي بطن الأم مالناش فيه مكان  )

منحتني الكتب والأفلام نوافذ وشرفات وشوارع وحيوات  كاملة ، لكنها أبدا لم تكن كافية ، إلا لتأجيج نيران الرغبة في الانفلات الدائم .
لحظات الانفلات من حوائط القرميد ، وجدران القدر الأنثوي ، أغالبها لتمتد من دقائق لساعات ، طريق العودة من المدرسة أو الجامعة أو العمل ، لابد أن يكون أطول الطرق وليس أقصرها ، المرواغة من الشوارع الرئيسة ، للدروب الضيقة والحارات ، والأسواق الشعبية  عادة يومية ، تؤنسني الرفقة لبعض الطريق فقط ، فأغالب الوحدة بالغناء والدندنة .

"علي صوتك بالغنى لسه الأغاني ممكنة"

أو باستعادة أحداث آخر الروايات ، و الأفلام ، وابتكار أحداث وشخوص أخرى ، تصاحبني حتى مكان الوصول .

"الشارع لنا ..... الشارع لنا ... إحنا لوحدنا والناس التانيين
دول مش مننا .. الشارع لنا ."

الخفة المطلقة ، الامتلاء التام ، امتلاك العالم كله في لحظة ، بشخوصه وأحلامه ، تلك الرقصة الجماعية التي ترفع أقدامنا عن الأرض لنحلق في السماء معا ، الهتافات ، الثورة ، التمرد ، الصوت الواحد المتعدد ، حركة المجاميع في الأفلام ، ورحابة الشارع الواسع التي تحتضن الكل الواحد ،  حلم طالما أسرني  .

منحتني الكتابة بطاقة المرور إلى الشارع ، التسكع والصعلكة والتشرد المبرر ، ترف الجلوس على المقاهى كأي مثقف حقيقي .

ومنحني السفر متعة الانفلات الأكبر ، المغامرة والاكتشاف للذات أولا ، قبل مصاحبة الدروب الجديدة تماما في مشوار الحياة .  
هل تتذكر تلك اللقاءات ، كل الشوارع التي مشيناها حتى تآكلت في قدمينا الأرض ، دون أن يذوي من شفتينا القول  ، حين حان الفراق ، كان الافتقاد والحنين لكما معا  .

أرسلت لي مدندنا :
"خاصمت الشوارع ، خاصمت البيوت  وكل الحاجات اللي كانت تفوت علينا سوا"

أما أنا فتصالحت مع الشوارع الجديدة أمهدها لأقوال أخرى ، ومشاوير نسيرها معا ، ومخزون  كبير من الحواديت .

وبالذاكرة والحنين ، كانت الغواية الدائمة لاستحضار الأمكنة بدلا من الشخوص والأحداث ، كأبطال فعليين للقصص والحكايات .
حكاياتي  عن البيت والحجرة والشارع
            عن الدرج المظلم ، ودورة المياه ، والمدرسة
والفراغات الصغيرة المظلمة المتخلفة عن أحجار نزعت من مكانها و..
                عفوا ... تلك حكاية أخرى .