ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


السبت، 19 فبراير 2011

ألم أقل لكم ؟

"رغم عشقي المؤلم للحواديت،واستئثاري بالقدرة على الحكي بين رفاق الطفولة والصبا،رغم خروجي الدائم خارج حدود الجدران الأربع  بالخيال غالبا،كنت دائما طرفا غائبا عن المشاهدة العيانية لمغامرات الشارع وأحداثه،شارعنا الذي يضيق قرب بيتنا ثم يترك لنفسه كل البراح بعيدا عنه،تصلني أخباره وأحداثه من أفواه الجارات اللاتي يمتلكن شرفات خارجية تطل عليه،بينما قدر لغرفتنا الوحيدة ألا تتطلع أبدا للعالم الخارجي،بنافذة  تشاركها الوحدة والانعزال،لا تطالع سوى الأفنية الخلفية للبيوت الأخرى،لذا فشجارات الصغار التي تتحول لمعارك بين الأسر،الأفراح الشعبية، وأصوات الشارع والمارة،المقيمين أو الدخلاء ، الفضائح والشائعات،تصلنا  متأخرا جدا كمن يقرأ الجرائد القديمة،أو بالتعبير الشعبي،كنا آخر من يعلم ."
بالتصدير السابق بدأت أولى صفحات مجموعتي القصصية الأولى المعنونة "بأقل قدر من الضجيج" ،كشهادة أدبية مكتوبة،عن قصص وحكايات استغرق مخاضها أكثر من عشرسنوات،تبعتها سنوات أخرى قبل أن اجد في نفسي  الشجاعة لنشرها، ربما لأنها لم تكن مجرد حكايات،بل حيوات وشخوص وذكريات، إسكندرية الثمانينات بشوارعها، وميادينها، ووجوه سكانها،وحياة جيل بأمانيه وأغانيه، جيل سمع عن ثورات قبله،عن أجيال سبقته بالتمرد والتحقق،بينما يقدرله الحياة في عهد ساكن تتشابه ساعاته بشهوره بأعوامه.
جيل يحيا تحت قانون يرهب ولا يحمي، يردد أغاني وطنية خالية من المعنى ،يستمع لتاريخ من سبقوه ،فيرى في أعينهم بريق الحياة لمن عاين وكاشف وعاش انهزامات وانتصارات فاكتسب حكمة وتفاؤلا لم يستطع توريثها لأبنائه.
أحداث كثيرة لم نعشها ،حرب اليمن /حرب 48/ ثورة 52/العدوان الثلاثي على مصر/النكسة/ أكتوبر.
تحكي لي جدتي عن خطاب التنحي الشهير لرئيس مصر وقتها "جمال عبد الناصر" ،تقول : خرج الجميع رافضين قراره متمسكين به ،القطارات إلى القاهرة كانت مجانية،ومن كثرة الزحام مات جارنا حين وقع أثناء ركوبه فدهسه القطار.
وتقص أمي أحداث وفاته ، "خرج الجميع ،سافروا من كل المحافظات إلى مصر، كنت طفلة وأردت المشاركة في الحدث،أحضرت أحد أثواب أمي السوداء،حولته إلى شرائط طويلة ممتدة، غلفت بأحدها صورة "جمال عبد الناصر"المعلقة في صالون البيت،وشبكت باقي الشرائط بحواف "البلكونة" لترفرف خارجا مع الهواء" طبعا حين عادت جدتي كان نصيب أمي منها علقة ساخنة بسبب ثوبها الممزق".
يروي لنا أبي قصصا لا تنضب عن مغامراته الشخصية أثناء "حرب أكتوبر"، عن الراديو الذي كان لا يفارقه،عن المعديات المصنوعة من المطاط التي فردت على شاطيء القناة ليعبر بسيارته فوقها في قلب الماء إلى الشاطئ الآخر، عن صديقه الذي انفجرت بجواره قنبلة ،فانغرزت حبيبات الرمال بقدمه ، أصابته بتنميل فظن ساقه قد بترت، ظل لأيام بعدها و كلما فرك جلد ساقه تتناثر منه الرمال.
ولأنني تشربت غواية الحكي، بذاكرة فوتغرافية لا تنسى مشهدا أو ذكرى،أردت قصة حقيقية أحكيها انا أيضا،أردت مغامرة أقصها على طلابي الصغار بالمدرسة، قصة تحمل معاني الأمل،التفاؤل،الانتصار.
التحقت بالجامعة وانا أضع في مخيلتي صورة رأيتها في الأفلام القديمة،تلك الحياة الغنية،والنقاشات الاجتماعية والسياسية، تخيلت انني سالتقي "فهمي عبد الجواد" الشاب الجامعي الثوري في "بين القصرين"أو " زينب" في الكرنك .
المظاهرة الوحيدة التي حدثت في حياتي الجامعية تمت وانتهت ،بينما كنت خارجا اتمشى مع صديقتي في "محطة الرمل".
ربما لذلك كانت البطولة في حكاياتي للأمكنة وشخصيات الحياة،للبيت والشارع وساعات السفر،للأشياء والفراغات الصغيرة المظلمة.
لكنها قصص حملت مشاعر ذلك الجيل،الذي ربما لم يعد يشعر بالأمان،جيل تحركه الانتصارات الشخصية،والتحقق البسيط على مستوى الحياة الخاصة،جيل رأى أعظم انتصارهو مبارة كرة قدم بين فريقين، وأكبر صراع هو تبادل الاتهامات مع دول عربية،كان يتغنى بوحدته معها في السابق.
بطلة "بأقل قدر من الضجيج"وهي القصة التي اخترت عنوانها ليكون عنوانا للمجموعة كلها،لم تكن سوى طفلة حالمة مدندنة، تتهاوى أحلامها البسيطة فجأة حين يطيح بها أحد الصغار المارين بشارع خال،تسقط الصغيرة على رأسها،تنزف جرحا داميا بالرأس، وآخر بالروح والقلب ،حينها تفقد تماما إحساسها بالأمان،رغم أن ما حدث لها كان عاديا ومكررا وبأقل قدر من الضجيج.
الطفلة التي كنتها،كانت تكبر بينما تناضل قدرها الأنثوي بعناد ربما ورثته من برجها الفلكي، وتحلم دائما بالانفلات إلى شوارع أرحب، وآفاق أكثر اتساعا.
الطفلة التي تعبت من الصراعات، سافرت إلى بلدة أخرى،وحين أوشكت على النسيان،على الاستسلام لحياة عادية خالية من الأحلام الكبرى، حين توقفت عن ترديد " الشارع لنا ..إحنا لوحدنا " ، حين اكتفت بمحاولات التحقق الذاتي على المستوى المهني والمادي،حين استبدلت اغاني "الشيخ إمام" بكليبات "إليسا وعمرو دياب"،حين تذكرت بأسى أصبح يغلف كتاباتها أهازيج فرقة " الحب والسلام " وهي تغني للوحدة بين الإسلام والمسيحية "صاحبي كان صاحب بجد ..كان بريء فوق أي حد ..مستحيل يبعدنا حد ..لو بأصلي الجمعة ..ولا صاحبي بيصلي حد" ، بينما تطالع أخبار وصور واحداث تفجيرات "كنيسة القديسين" ، بمدينتها البعيدة المسالمة. نفس المدينة التي عاينت حادثا آخر منذ ما يقرب من عام، وفاة الشاب السكندري"خالد سعيد" جراء عنف ووحشية رجال الشرطة معه.
أخبار منعتها من الابتهاج بصدور كتابها الذي انتظرته طويلا ، مجموعتها القصصية الأولى" خجلت من فرحتها بها وهي ترى أحد أحلامها الأثيرة يتحقق أخيرا،فتكتب في الإهداء " ألم أقل لكم ؟".  في استحياء تتصل بصاحب دار النشر،وبخجل تعلن عن كتابها على صفحات الفيس بوك، وعلى نفس الصفحات تتعرف أخبارانتحار "بوعزيزي"بتونس ، الأحداث الجديدة تجبرها على اللهاث، "بن علي" يرحل، صديقتها التونسية تتضطر لإلغاء سفرها إلى تونس خشية الاضطرابات الحادثة،ومن مصر تصلها الأخبار،معرض الكتاب يوم 26، جهزي نفسك لندوات وحفلات توقيع، تحجز بلهفة تذكرة السفرإلى مصر،لهفة لم تشعر بها منذ زمن،في الحقيقة إجازاتها الأخيرة إلى مصر كانت تفقد بهجتها منذ الأيام الأولى، حتى أنها كانت تقدم موعد العودة إلى "الكويت"، لا تتحمل البقاء في مصر أكثر،كل ما حولها،يصيبها بالخوف والغضب، الناس والأسعاروالمعاملة السيئة.
على الفيس بوك دعوة للتظاهر يوم الخامس والعشرين من يناير،تسخر منها بينها وبين نفسها في البداية ،لكنها وفي اعماقها،تشعر بالحزن والسخط ،لن تستطيع المشاركة،فموعد سفرها في التاسع والعشرين، لكنها تتابع الأخباربشغف،تقرا التعليقات، تتسوق من أجل حفلات التوقيع، تلتقي بعض الأصدقاء من الكتاب بالكويت،حضروا لمؤتمر مجلة العربي،تمنحهم اولى نسخ المجموعة،تعدهم ويعدونها،"سنلتقي في القاهرة ".
وتندلع الثورة ،الثلاثاء25 يناير،تلتصق عيونها بشاشة التلفاز،تطالع الفضائيات بلهفة وخوف وأسى،الآلاف يخرجون،في القاهرة والإسكندرية والسويس،القنابل والغازات والصرخات، تلمحه ابن بلدها،يواجه سيارة المطافيء التي تغرقهم بالمياه،فتتوقف امام بسالته،تصرخ في لهفة ،"جدع يا ولد ".
الأربعاء 26 يناير،استمرار الاشتباكات، العنف مرة أخرى،والصوت يعلو والأعداد تقل هنا وتزيد هناك، الخميس آخر ايام العمل، تتشاجر مع زميلتين ترددان عبارات الخنوع واليأس .
تسألها أخرى ؟ هل مازلت مصرة على السفر؟
في المساء ،تعد حقيبتها، تملؤها ثم تفرغها عدة مرات،التلفاز يعمل بأقصى طاقته،والحاسوب أيضا،أخبار وأغاني وطنية . تتنقل بين غرفة الجلوس وغرفة النوم،إعداد الحقيبة يستغرق طوال الليل ،في النهاية تعيد نصف الملابس والأغراض إلى مكانها بخزانة الملابس.
على الفيس بوك جروب جديد"كويتيون من أجل مصر"،تشترك فورا،تقرا تعليقات المشتركين بعينان تمتلآن دموعا،تكتب تعليقا ."أثبت هذا الجروب ان الشعوب العربية متحدة،ولها قلب واحد ينبض بنبض واحد، يبدو ان حكامنا هم من صنعوا الفرقة بيننا".
الساعة الواحدة صباحا بتوقيت الكويت،يخرج "الرئيس مبارك أخيرا "لإلقاء خطابه الأول بعد ثلاث أيام وليال دامية،يشرع في الحديث،ومع كل عبارة ينطقها،تعليق عليها في صفحة الجروب،الكويتيون أيضا ساهرون مثلنا،يتابعون بنفس اللهفة والترقب.
وفي الصباح ،تنقطع كل الاتصالات بمصر،الهواتف والانترنت،مصر أصبحت دولة معزولة في لحظات،هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس السؤال يتردد، هل ستسافرين؟
الفندق الذي حجزت فيه،يقع على بعد خطوات قليلة من ميدان التحرير الذي تراه على شاشات التفاز كساحة معركة حقيقية.
هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس الرجاء والتحذير،لا تسافري،معرض الكتاب تم إلغاؤه،لن يكون هناك كتاب، أو ندوات،أو حفلات توقيع .
تغلق الهاتف وقد ازدادت تصميما على السفر،كل ما تخشاه إغلاق المطار،أو إلغاء الرحلات الجوية إلى مصر،تحذير آخر"ربما تستطيعين الذهاب،لكنك قد تحتجزين هناك ،ربما يفوتك موعد العودة،فتخسري سنوات من العمل في البلدة الأخرى.
تتأكد من إعداد الحقيبة للمرة الأخيرة ، الأهم،جهاز الحاسوب المحمول،والكاميرا،يجب أن تسجل كل اللحظات صوتا وصورة.
في المطار تستخدم "الفيس بوك " للمرة الأخيرة قبل ركوب الطائرة،القلب لا يتوقف عن الخفقان ،الخوف واللهفة معا هما الشعوران المسيطران، تتفقد حقيبة يدها ، احضرت بعض النسخ القليلة من مجموعتها القصصية ، تفكر بينها وبين نفسها "لو نجحت الثورة سيتغير شكل الأدب والثقافة في مصر". تصل أخيرا،الطريق من المطار إلى فندقها في وسط البلد يبدو غريبا وغير قابل للتصديق،الدبابات بالشوارع ،والسيارات قليلة وسريعة " أتلك هي القاهرة التي تعرفها؟

تنهي إجراءاتها بالفندق سريعا،لا يشغل بالها سوى شيء واحد. "نزول الميدان" من نافذة غرفتها ،تطالع الميدان ،في مواجهة نافذتها تماما مبنى الحزب الوطني مازال يحترق، تحمل هاتفها المحمول ،والكاميرا،خطوات مرتبكة وخائفة حتى تصل، المشهد كان أكبر من الوصف بالنسبة لها ،وهي التي احترفت التصوير بالكلمات، الهتافات والنداءات، المسيرات بالمئات، تلمح صديقا تعرفه،تشير إليه،وفي دقائق تنضم إلى الحشد الأليف،شعور جديد بالأمان والدفء يتسلل إليها،تردد مع الكل بصوت مبحوح مرتجف في البداية "بلادي بلادي ..لك حبي وفؤادي"، صوتها يرتفع، وتشرق بملامحها ابتسامة هجرتها منذ زمن، أيام كثيرة ومتوالية قضتها في الميدان،كانت تلتقي مصادفة بكل معارفها من الأدباء والكتاب، لم تحزن لألغاء المعرض أو حفلات التوقيع،كان لضجيج الحرية وصخب الهتافات لحنا عذبا يتراقص على نغماته فؤادها .
قررت :" سيكون حفل التوقيع الأول بقلب الميدان "
وسيكون "بأكبر قدر من الضجيج"
جيهان عبد العزيز

تم نشر هذا المقال بجريدة أخبار الأدب الأربعاء 18 يناير 2011م

السبت، 12 فبراير 2011

من يوميات الغضب " الجزء الأول"

يوميات الغضب 
.............................   جيهان عبد العزيز
المكان : مصر . القاهرة . ميدان التحرير
الزمان : أيام الغضب
هدير طائرات الهليكوبتر الحربية ، و جنازير الدبابات في شوارع العاصمة المصرية ، وبعض المحافظات , أصبح هو المشهد اليومي المألوف ، ليس الأمر احتلالا عسكريا ، القوات والجنود والعسكر هم عسكر الجيش المصري، التجمعات والهتافات في الشوارع ، اخبار المظاهرات والسرقات و اللجان الشعبية ، تطغى على جميع اجهزة التلفاز في البيوت ، والمقاهي القليلة المفتوحة ، الشوارع الخالية ، أبواق السيارات التي لم تعد تدوي في سماء القاهرة ، مشهد جديد وغير مألوف ،المتاريس التي توضع في مداخل الشوارع السكنية ، حراسها ليسوا إلا سكان الشوارع نفسها ، مسلحين بالعصى والسنج والأسلحة البيضاء ، لا يسمحون بالعبور إلا  لمن يبرز هويته ، ويثبت انه من سكان الشارع ، او يذكر اسم من هو ذاهب إليه ، مدينة جديدة ساهرة ، بخفراء ليليين من السكان ، حملوا لقب"اللجان الشعبية" وكلفوا انفسهم بحماية شوارعهم وممتلكاتهم ، الحراس مصريون ، والسارقون ايضا مصريون ، المواطنون يعتلون الدبابات ، يعانقون افراد الجيش ويشدون على ايديهم ، و الهتافات تعلو بفرحة وامل كان لهما غياب طويل ، "الشعب والجيش إيد واحدة"
" يسقط يسقط تحيا مصر"
الترقب والقلق والجو المشحون كهدوء يسبق العاصفة، تشعر به بمجرد وصولك لمطار القاهرة الدولي الكائن بمدينة نصر، ومنذ اللحظة الأولى للخروج ، وبدلا من ان يتهافت عليك السائقون لتوصيلك ، تجدهم يشيحون بوجوههم بعيدا بمجرد ذكر وجهتك "وسط البلد . ميدان التحرير" .
أخيرا يقبل احدهم بتوصيلك بعد اشتراط مبلغ هائل من النقود ،تقبل دفعه صاغرا،وإلا اتخذت مكانك وسط عشرات السياح والعرب المرابطين في ساحة الانتظار بالمطار، في الطريق الشوارع الخالية صادمة لمن راى القاهرة قبلا ، السيارات قليلة ومسرعة ، الكل يخشى بدء حظر التجول ، " مش حنعرف نرجع" تلك هي العبارة المتكررة ، الدبابات هي المشهد المتكرر على طول الطريق ، كثافة أكبر وعدد جنود أكثر عددا في مدينة نصر حيث "بيت الريس" ، ما ان تدخل منطقة وسط البلد حتى ترى تلك التجمعات من الناس ، يسدون الطرق ، ويؤشرن للسائق كي ينحرف ويمشي من طريق آخر ، لكن المشهد يتكرر عند كل ناصية وشارع تؤدي إلى ميدان التحرير، تدرك اخيرا انك لن تصل اليه ابدا إلا راجلا، ممنوع دخول السيارات ، الوضع يتكرر منذ بدء حظر التجول ، والذي تعرف معناه أخيرا ، وهو بدء التجول على القدمين ، ربما تصيبك الدهشة ، فالشوارع الخالية قبل الحظر تمتلئ وتتزايد الجموع فيها بمجرد بدء الحظر ، الأعلام على الأكتاف وفي الأيدي ، الهتافات لا تنقطع ، من هنا وهناك ، اللافتات المصنعة من كل المواد التي تخطر على بال اولا تخطر ، علب الكارتون الفارغة ، علب الوجبات الجاهزة ، على القمصان ، على الجباه ، على الجدران والمحال والبنوك والحوائط وشركات السياحة المغلقة " الخل هو الحل" عبارة مكتوبة تحمل الوسيلة لمقاومة قنابل الغاز،هي الوسيلة التي تسربت لشباب المتظاهرين من أقرناهم في تونس ، أصدقاء الفيس بوك قبل قطع الانترنت نهائيا بأوامر الرئيس المصري. ليس الانترنت فقط  ، بل جميع شبكات الهواتف المحمولة ، ليصمت ضجيج رناتها نهائيا ، لكن ضجيجا آخر يولد  في الشوارع الجانبية ، متخذا مسارات تصب كلها في بؤرة واحدة " ميدان التحرير" ربما تتساءل كما تساءل "الرئيس" في الفيلم المصري" انتو وديتو الشعب فين" ثم تجد اجابتك حية متجسدة في الكتل البشرية الملتحمة بميدان التحرير"
ألوف من المصريين ، عشرات من الأجانب والمراسلين، يحملون كاميرات تسجل كرنفالا أو احتفالا جمهوريا ، لم تشهده القاهرة منذ عقود ، الأصوات والصور الحية كانت ابلغ تعبير عن "ثورة شعبية"، الميدان ممتلئ عن آخره ، تحيطه الدبابات من كل جانب، لكن الجنود لا يمنعون أحد من المرور ، من الدخول للميدان ، من اعتلاء الدبابات نفسها ، من الكتابة عليها من جميع الجهات شعارات الانتفاضة "يسقط مبارك " ، " الشعب يريد إسقاط النظام"
ملامح الميدان الشهيرة ومعالمه تتضاءل وتكاد تتوارى أمام الطوفان البشري المرابض ، رائحة الدخان خانقة وتزكم الأنوف ، ومشهد النيران المندلعة  من مبنى "الحزب الوطني"  تذكر بمشهد " حرائق برجي التجارة العالميين" منذ سنوات قليلة ، المتحف المصري مهجور ، والحكايات تتردد عن محاولات سرقته التي احبطها أفراد اللجان الشعبية أنفسهم من المواطنين والمتظاهرين ، الجناة "أفراد الشرطة " بعد ان خلعوا زيهم الرسمي ، الحراس الجدد من الشعب يلقون القبض على السارقين ، يقومون بتسليمهم لقوات الجيش ، حكايات أخرى عن السرقات للمجمعات والمولات الكبيرة وكبائن النقود ، بعد خلو الشوارع من رجال الشرطة ، أقسام بوليس كثيرة تمت مهاجمتها وإحراقها ، والاعتداء على من فيها من قبل بعض الأفراد الذين تم التنكيل بهم من قبل في نفس تلك النقاط ومن نفس هؤلاء الضباط وأمناء الشرطة ، كانت لحظات للانتقام حانت لكل صاحب ثأر قديم ، في وسط الميدان سيارة شرطة محترقة تماما وقد حولها المعتصمون لحاوية ضخمة للقمامة ، حكايات أخرى عما اسموه بحرب الشوارع بين المتظاهرين وقوات الأمن في "جمعة الغضب" ، عن القنابل المسيلة للدموع ، عن النساء اللاتي كن يلقين بزجاجات الخل والكولا للمتظاهرين ،أو طريقتهن المبتكرة في احتواء القنابل نفسها في كتل من عجين الماء والدقيق، وطوفان البشر مازال مستمرا ، مئات اللافتات بشعارات مختلفة ، بعضها اوراق عادية ، وخطوط يد رديئة ، الأخرى لافتات ضخمة مطبوعة الكترونيا، صور الرئيس تحمل ملامح فنانين شعبيين تفننوا في إضافة خطوط أخرى كآذان طويلة ، أو رسم حمار ، أو مجرد الشخبطة على الوجه ، أو حمل الصورة مقلوبة رأسا على عقب " انتهى الدرس يا غبي " " game over"  
" طلاب طب أسيوط يشاركون " " أهل السويس " ، "دستور جديد " " ليه التعتيم "
الوجوه مختلفة في القسمات والملامح ، في الأعمار والمستويات الاجتماعية ، متحدة في الثورة والمسيرات ، في التجاور ،جماعات جماعات بعضها يفترش الحديقة الدائرية في قلب الميدان ، الآخرون يفترشون الأرض والأرصفة ، رجال قرويون كبار السن بلباسهم التقليدي ، فتيات وفتيان جامعيين بالتشيرتات والجينز ، بعض أطفال الشوارع ، ربات بيوت ، رجال ونساء وأطفال ، عائلات كاملة من كل محافظات مصر، كتاب وصحفيون وفنانون وأناس عاديون، يتزعمون الهتافات ، او يقومون بتنظيم اللجان الشعبية ، وتوزيع المهام على المعتصمين ، في هذه البقعة "خالد صالح " يعتلي السور الحديدي يهتف والجماهير وراءه ، بجواره "خالد ابو النجا " يحمل كاميراته يشارك بالهتاف وتحية المتظاهرين ، على الجانب الآخر "جميلة اسماعيل" تعتلي احدى الدبابات ومعها وحولها مجموعة كبيرة من الناس، امام الجامعة الأمريكية ، تجمع ثالث ، القائد طفل صغير لم يتجاوز الاعوام الخمسة يهتف بصوته الطفولي ويندفع الهتاف من الحناجر خلفه " ارحل ارحل مش عايزينك" ، عند بداية الميدان صوب الكوبري الممتلئ عن آخره باعداد أخرى ، تجمع حول "البرادعي " ، فجاة تمتزج الأصوات وتتداخل في لحظات تخرج مبحوحة محشرجة ، والقلوب نابضة بالعزم ، وبمشاعر متداخلة ، وبحرارة تمتليء بها الجموع المتدفئة ببعضها من برودة يناير ، فلا تميز الهتافات المختلفة ، لا تستطع فك شفرات حروفها وألفاظها ، لا موطىء لقدم بالميدان ، ولا مساحة للرؤية سوى للوجوه والأجساد المتلاحمة ، الهواتف المحمولة رغم اعادة تشغيلها ، ينكتم صوت رنينها تماما امام سطوة الحناجر ، المشهد اشبه بيوم الحشر ، تمسك بيد رفيقك ، لا تجعله يغب عن عينيك لحظة ، وإلا استحال الوصول إليه مرة اخرى،لا تعط موعدا لأحد ، ولا تغضب ان لم يف احد بوعده لك ، فالانتقال من رصيف إلى الرصيف المقابل وقت التظاهر قد يستغرق  ربع ساعة كاملة ، دع الطوفان يحملك ، وقد تلتقي بمن تريد وحدك ، لا تحمل هم الجوع او العطش ، فسرعان ما ستجد من يمنحك جرعة من المياه ، او ساندوتش فول وفلافل ، وربما تكون سعيد الحظ فتحصل على علبة كشري ، وزجاجة مياه غازية ، هناك الحلوى ايضا ، البسبوسة والمقرمشات ، كلها توزع مجانا ، من كل صوب واتجاه ، المعتصمون ، أقاربهم ، مصريون ومصريات أرادوا المشاركة بما يستطيعون فعله ، قبل الذهاب لمنازلهم واحيائهم السكنية كي يقوموا بالحماية، الأيام تمر والمشهد لا يتغير ،التعب ينال منك ، فلتسترح قليلا ، انظر حولك ، واختر اقرب مكان متاح للجلوس ، على الأرض على الرصيف ، على السور الحديدي ، ربما تفضل مكانا شاغرا على احدى الدبابات ، اختر اي مجموعة واجلس معهم دون تعارف سابق ، لن يبعدك احد ، ستتبادلون سلاما بالعيون أولا ، ثم بابتسامة على الشفاه المكدودة ، سيقدم لك احدهم سيجارة لتدخنها ، ستستمع لغناء قريب ، فتتوجه إليه ويعلو صوتك مع الكورس الجماعي لترديد اغاني الشيخ إمام " مصر يا اما يا بهية .. يا ام طرحة وجلابية " أو تشارك مجموعة اخرى كلمات سيد درويش " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك " ، تتوقف الأصوات كلها فجاة ويلتزم الجميع بالصمت ، يتراص المئات لأداء الصلاة وكأنهم في ساحة الحرم ، لا يشوش على صوت المصلين سوى هدير الدبابات المحمومة حول الميدان ، تنفض الصلاة ليعود الكرنفال من جديد .
فجاة يدوي هدير اكثر عنفا يكاد يصيب الآذان بالصمم ، والرجفة تنتقل من القلوب للأبدان كلها، طائرات حربية أخرى " بوينج" تنطلق كالرصاصة فوق رؤس المعتصمين ، الهتافات تختنق داخل الحناجر ، ثوان تتوقف فيها الأنفاس والعيون تتطلع للسماء بدهشة وخوف ، ثم تتعالى الهتافات من جديد ، هتافات ساخرة في تلك اللحظة ،وغير مبالية ، ومصرة على اكمال المسيرة بلا خوف أو ترهيب
" مش حنمشي .. هو يمشي "
خبر جديد " الثلاثاء مسيرة مليونية "
اليسار واليمين قلب واحد وصوت واحد ، ساعات تمر بلا كلل ولا ملل ، وفي كل لحظة مشهد جديد وطريقة مبتكرة للتعبير، مجموعة ترتدي أردية بيضاء كالكفن ، والشعار" هذا كفني من أجل مصر" ، مجموعة أخرى يرفعون شعار "الإضراب عن الطعام" شخص يعتلي عمودا كبيرا للإنارة ، ثم يقرر "لن أرحل حتى يرحل " . وجوه تتبدل وتتكرر، أعداد تقل في المساء ثم تزيد مرة أخرى ، في الليل ، مئات يفترشون الحدائق والأرصفة ، المبيت في الميدان هو القرار ، حلقات حلقات وفي الوسط يشعلون النيران للتدفئة ، دخان يتصاعد ، وشباب اللجان الشعبية يحملون المقشات يكنسون الميدان الكبير ، وبعضهم يحاول نزح المياه المتراكمة في بركة كبيرة جراء قذف المتظاهرين بالماء، الأطعمة مازالت توزع من الجميع وإلى الجميع ، إشاعات تنتشر، والحقيقة غائمة ،البعض يذهب للمقاهي القريبة محاولا تعرف الأخبار الجديدة ، مجموعات من الأطباء الشباب يتطوعون لعلاج المرضى والمصابين في قلب الميدان، لافتات توضح أماكن الخدمات المختلفة ، "الإسعافات الطبية خلف مطعم ........." ،، واخيرا صباح جديد ، الميدان يتزاحم ، ويتحول المكان إلى ما يشبه المولد الشعبي ، أصوات ميكروفونات تتعالى ، شاشات عملاقة يتم تركيبها في الميدان ، يذاع عليها اشعار شعبية وطنية ، على خلفيات من صور لمصر ومظاهر المعاناة فيها ، أجهزة تلفاز يتم تركيبها ، ليتم من خلالها بث القنوات الإخبارية التي تم منعها ، وموائد تفرش على الأرصفة ، إذا كانت المحال مغلقة ، فستفتح في قلب الميدان ، الاصناف قليلة لكنها كافية ، علب من الجبن الأبيض ، وبعض ارغفة الخبز ، نصبة شاي بالتعبير المصري، موائد عليها "حلوى العسلية " ، تكاد تشعر انك بعد قليل ستجد الحاوي ، او من ينادي عليك "افتح عينك تاكل ملبن " ، ليلة الثلاثاء كانت بحق "الليلة الكبيرة" كما وصفها "صلاح جاهين" استعدادا للمسيرة المليونية في الصباح القريب ، قرب الميدان مشهد جديد ، المقاهي كلها مفتوحة حتى الصباح ،العيون متوجهة نحو شاشات التلفاز ، المعتصمون يحاولون التغلب على برودة الليل بالحركة ،دقائق يقضونها على المقهى ثم يعودون منتظرين الفجر الجديد ، واخيرا ياتي ، المشهد يفوق كل وصف ، الأعداد في الميدان نفسه فاقت المليون ، ومازالت الآلاف تتوافد من كل صوب، الهواتف المحمولة تدق ، اخبار الإسكندرية ، هناك مليونين أو أكثر في الشارع ، ومازالت السيادة مستمرة ، حول الميدان كثافة اكثر للتفتيش ، لن تمر بدون إظهار بطاقتك ، وتفتيشك تفتيشا ذاتيا ، سواء كنت رجلا أو امراءة ، فالإشاعات المنتشرة بمحاولة الدسائس الدخول في قلب التظاهرة ، ومحاولة إحداث العنف والشغب كانت أقوى مما يكون ، الفئات كلها موجودة، الطبول تدق ، الهتافات تتعالى ، وحول الميدان انتشر سوق جديد ، " علم مصر " بخمسة جنيهات، مشهد جديد في الشارع المصري، وفي لحظات يرفرف علم مصر في كل يد ،في شارع شامبليون حيث يقع "حزب التجمع" تتكدس الشرفات بأناس آخرين ، يلوحون أيضا بالأعلام ، بينما يعلو صوت عبد الحليم حافظ بالأغاني الوطنية ، وخبر جديد " خطاب للرئيس مبارك " بعد قليل ، لكن القليل يتحول لساعات طويلة من الانتظار
وللحديث بقية  .
جيهان عبد العزيز