أحلام على وجه العام الجديد "
" قد إيش كان في ناس ......... عالمفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملوا شمسية وأنا بأيام الصحو ماحدا نطرني " ها نحن في ديسمبر ، ينبعث الصوت الفيروزي من المذياع ناشرا دفئا محببا رغم زخات المطر ، ربما لأن شتاء الإسكندرية ليس كأي شتاء آخر ، دفء منبعث من نسمات الأبيض المتوسط ، أو
ربما من أنفاس البشر المنتشرين ، أضواء المحال ، والملابس الشتوية الأنيقة المعروضة ، مرآها وحده كان ينشر في نفسي وروحي الدفء ، وكأن شوارع الإسكندرية بطانية كبيرة تحتويني ، بطانية مزدانة باللون الأحمر ، زينة أعياد الكريسماس التي اقتربت ، وجوه باسمة لبابا نويل تطل من جميع الواجهات بذقنه القطنية البيضاء الدافئة وطرطوره الأحمر المبتهج ، وبسمته الحنون التي تعد بتحقيق كل الأحلام ، تنتصب وراءه شجرة الكريسماس المتلألئة بعشرات النجوم الفضية والكرات الذهبية والحمامات البيضاء . للهواء رائحة منعشة ، لقطرات المطر التي انزلقت من السماء منذ قليل ، أو تلك المختبئة بين الغيوم تنتظر اللحظة المناسبة ، و في الميدان الكبير المتسع "لمحطة الرمل" ، حيث تتغلغل رائحة الفيشار الطازج في الأنوف ، يغدو كارنفال حقيقيا للوجوه والملابس والمحال ، المارون كثيرون ، شباب يتمهلون أمام أبواب السينمات المتجاورة ، ينقلون أبصارهم بين الأفيشات الضخمة ، يتناقشون معا ، ينتقون أخيرا ثم يتوجهون إلى شباك التذاكر لحجز أماكنهم ، أسر تتجول بين المحال المختلفة ، فتيات يتنقلن كنحلات نشيطات بين تلك الموائد المفروشة على امتداد الشارع بالإكسسوارات وأدوات التجميل ، والكتب والمجلات ، والبوسترات الملونة للفنانين والفنانات وتقاويم العام الجديد . أتمهل مع صديقات الجامعة أمام تلك الرزم الصغيرة ، روزنامات صغيرة بحجم أوراق اللعب ، يحمل وجهها الأول صورة ، والوجه الآخر كل أيام وساعات ولحظات العام الجديد ، أقلب التقاويم والصور ، و أرقب بطرف خفي ما يختاره الآخرون ، كل صورة كانت تحمل معنى وإحساسا ، وذكريات ، و آمالا مؤجلة ، آمال تتضرع إلى العام الجديد أن يكون هو عامها المنشود ، عام تحقق الأحلام . أسهم تخترق قلوبا حمراء ، أياد متشابكة لعشاق صغار ، زهور ونباتات ، فراشات ، صور للفنانين :عرب وأجانب ، نماذج مصغرة للوحات شهيرة ، ألمح صديقتي تختار وجها لطفل صغير ينبع من عينيه نهران من الدموع ، أتعجب لاختيارها، وسرعان ما أتذكر السبب في الحزن النائم في عينيها ، حين تخرج تقويم العام الماضي ، كان هو من أهداها ذلك التقويم ، اشترياه سويا من نفس البائع ، صورة لطفلين صغيرين مشبوكي الأيدي والنظرات ، على ساعد الفتاة الصغيرة وشم لقلب كتبت فيه كلمة ( love) ، و أسفل الصورة كلمات باللغة الإنجليزية " معك أشعر بالأمان .......... لأنني أثق بك " انقبضت أصابعها فوق التقويم القديم تعتصره ، طوحت به بعيدا لتدهسه أقدام المارة ، وكأنها بذلك تطوي عاما كاملا من حياتها ، لكنني لمحتها تبحث بعينيها في التقويم الجديد عن تاريخ ميلاده ، وهي تستعيد كل الذكريات ، أحاول الانشغال عنها بالبحث في الصور عما سأختاره هذا العام لنفسي ، تنفلت مني ابتسامة وأنا ألمح تلك المراهقة الصغيرة تشتري كل الصور التي يطل منها المطرب الشاب الجديد بأوضاع مختلفة ، أختار بعض التقاويم التي تحمل صورا لأطفال ولمناظر طبيعية ، أبتعد أنا وصديقاتي وكل منا تمسح بعينيها تواريخ العام الجديد ، يحمل لها كل تاريخ حلما تتمناه ، هنا سيكون الاحتفال بعيد ميلادي ، وفي هذا التاريخ ستبدأ الامتحانات ، أما في ذلك التاريخ سأكون قد حصلت على شهادتي الجامعية ، حلم التخرج الذي روادني سنينا ، سيتحقق أخيرا ذلك العام ، تاركا الفرصة لأحلام جديدة كي تنبت ، وتشغل العقل والقلب والروح . خالي يحلم أن يكون العام الجديد هو عام زواجه من خطيبته الجميلة ، و صديقتي الأخرى تنتظر التخرج ليتقدم حبيبها بطلب الزواج ، جدتي تتمسك بالحياة من أجل أمل بعودة ابنها المسافر واستقراره بجانبها ، وأبي يتمنى أن يحقق له التقاعد راحة وهدوءا يحلم بهما منذ سنين ، أخي الصغير يأمل بدراجة تهدى إليه في ذلك العيد ، وجارتنا العروس تهفو إلى مولود جميل تستقر صورته الصغيرة بجانب صورة زفافها الملونة . كانت تلك هي أمنياتنا المشروعة ، بسيطة ومتواضعة ، كتلك الكلمات التي كنا نتغنى بها : " بأحلم على قدي بشراع يعديني بشموع تدفيني بعيون تصون ودي"