"الشوارع حواديت ...
حوداية الحُب فيها وحوداية عفاريت"
رغم عشقي المؤلم للحواديت ، واستئثاري بالقدرة على الحكي بين رفاق الطفولة والصبا ، رغم خروجي الدائم خارج حدود الجدران الأربع ، بالخيال غالبا ، كنت دائما طرفا غائبا عن المشاهدة العيانية لمغامرات الشارع وأحداثه ، شارعنا الذي يضيق قرب بيتنا ثم يترك لنفسه كل البراح بعيدا عنه ، تصلني أخباره وأحداثه من أفواه الجارات اللاتي يمتلكن شرفات خارجية تطل عليه ، بينما قدر لغرفتنا الوحيدة ألا تتطلع أبدا للعالم الخارجي ، بنافذة تشاركها الوحدة والانعزال ، لا تطالع سوى الأفنية الخلفية للبيوت الأخرى ، لذا فشجارات الصغار التي تتحول لمعارك بين الأسر ، الأفراح الشعبية ، وأصوات الشارع والمارة ، المقيمين أو الدخلاء ، الفضائح والشائعات ، تصلنا متأخرا جدا كمن يقرأ الجرائد القديمة ، أو بالتعبير الشعبي ، كنا آخر من يعلم .
( الشارع ده كُنَّا ساكنين فيــه زمان
كُل يوم بيضيق زياده عن ماكان
أصبح آلان ،
بعد ماكبرنا عليه
زي بطن الأم مالناش فيه مكان )
منحتني الكتب والأفلام نوافذ وشرفات وشوارع وحيوات كاملة ، لكنها أبدا لم تكن كافية ، إلا لتأجيج نيران الرغبة في الانفلات الدائم .
لحظات الانفلات من حوائط القرميد ، وجدران القدر الأنثوي ، أغالبها لتمتد من دقائق لساعات ، طريق العودة من المدرسة أو الجامعة أو العمل ، لابد أن يكون أطول الطرق وليس أقصرها ، المرواغة من الشوارع الرئيسة ، للدروب الضيقة والحارات ، والأسواق الشعبية عادة يومية ، تؤنسني الرفقة لبعض الطريق فقط ، فأغالب الوحدة بالغناء والدندنة .
"علي صوتك بالغنى لسه الأغاني ممكنة"
أو باستعادة أحداث آخر الروايات ، و الأفلام ، وابتكار أحداث وشخوص أخرى ، تصاحبني حتى مكان الوصول .
"الشارع لنا ..... الشارع لنا ... إحنا لوحدنا والناس التانيين
دول مش مننا .. الشارع لنا ."
الخفة المطلقة ، الامتلاء التام ، امتلاك العالم كله في لحظة ، بشخوصه وأحلامه ، تلك الرقصة الجماعية التي ترفع أقدامنا عن الأرض لنحلق في السماء معا ، الهتافات ، الثورة ، التمرد ، الصوت الواحد المتعدد ، حركة المجاميع في الأفلام ، ورحابة الشارع الواسع التي تحتضن الكل الواحد ، حلم طالما أسرني .
منحتني الكتابة بطاقة المرور إلى الشارع ، التسكع والصعلكة والتشرد المبرر ، ترف الجلوس على المقاهى كأي مثقف حقيقي .
ومنحني السفر متعة الانفلات الأكبر ، المغامرة والاكتشاف للذات أولا ، قبل مصاحبة الدروب الجديدة تماما في مشوار الحياة .
هل تتذكر تلك اللقاءات ، كل الشوارع التي مشيناها حتى تآكلت في قدمينا الأرض ، دون أن يذوي من شفتينا القول ، حين حان الفراق ، كان الافتقاد والحنين لكما معا .
أرسلت لي مدندنا :
"خاصمت الشوارع ، خاصمت البيوت وكل الحاجات اللي كانت تفوت علينا سوا"
أما أنا فتصالحت مع الشوارع الجديدة أمهدها لأقوال أخرى ، ومشاوير نسيرها معا ، ومخزون كبير من الحواديت .
وبالذاكرة والحنين ، كانت الغواية الدائمة لاستحضار الأمكنة بدلا من الشخوص والأحداث ، كأبطال فعليين للقصص والحكايات .
حكاياتي عن البيت والحجرة والشارع
عن الدرج المظلم ، ودورة المياه ، والمدرسة
والفراغات الصغيرة المظلمة المتخلفة عن أحجار نزعت من مكانها و..
عفوا ... تلك حكاية أخرى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق