ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


الخميس، 20 يناير 2011

العازف

العازف


قالت له جدته بنبراتها الأشبه بفحيح أفعى " ستسحرك الجنية العاشقة ، تمسُك بأطراف أناملها الناعمة الطويلة ، فتخلب لبك ، وتأسر عقلك ولسانك ، ستهيم على وجهك في الظلمة ، تتغنى بجمالها ، وبريق عينيها الذي يتألق كآلاف الشموس الغاربة " .
لم يفهم كلام جدته وإن كان يرتجف قلبه الصغير لنبراتها ، يخيل إليه للحظات أنها لم تفتح فمها المطبق أبدا ، يحار من أن أين خرج صوتها ، لكنه لا يشغل عقله الصغير طويلا ، محاولا مغافلة كل الأسوار التي تنبتها حوله ، كي يندفع خارجا للعب مع أصدقائه ، يعشق الجري بين الحقول ، يعبر معهم بنزق طفولي كل البرك الصغيرة ، بل ومرات يندفع للسباحة في ترعة القرية الممتدة كشريان رئيسي بين الحقول ، غير آبهين بتحذيرات الكبار ، حتى حين غرق فيها رفيقه ، ظلوا أياما يقفون لدقائق متأملين القاع الموحل ، أو قاذفين الأسماك بما يجمعون من أحجار ، يتسابقون فيمن يرميها لأبعد مسافة ، يمنحون لقب الفوز لمن تتضاعف دوائره في الماء حول الحجر الغارق ، كان ملولا بطبعه ، يبحث دائما عن الجديد والغريب ، يعشق التحدي غير آبه بأي تحذير ، يوم أن مات جده ، تسلل مع أصدقائه إلى المقابر ، بعد أن رحل المشيعون ، أراد أن يراه ، يسأله عن الكنز المخبأ تحت نخلتهم العتيقة ، عن الجنية التي عشقته ، فمنحته كنوزا لم تمنحها لأحد قبله ، لكنه لم يكتم السر ، فسلبته عقله وقلبه ، وتألقت كآلاف الشموس الغاربة ، وحين خفت التألق لم ير نورا بعدها ، يتذكر جيدا لون عيني جده المختلط بياضهما بزرقة شاحبة ، عصاه التي يتوكأ عليها ، وترشده للطريق في ظلامه الأبدي ، تتسلل إليه في المساء نغمات نايه الحزين كأنما ينادي غائبا عنه ، الجد المفتون بالجنية الراحلة رفض استخراج الكنز ، ربما ترضى عنه في ليلة ما، فتعود إليه من جديد ، ينتظرها عند كل اكتمال للقمر ، ليال ثلاث ينتظرها وحده ، فوق سطح القش والخيزران ، لكنها لم تأت أبدا ، والجدة العجوز التي هجر فراشها منذ زمن لقائه الأول بجنيته المخادعة ، كانت تلعنه في جوفها البارد ، تلعن جنيته المراوغة ، تتحسر على أيامها الماضية معه ، لكنها  حين خرج حفيدها الأول من رحم أمه على يديها  ، اختلج قلبها الواهن كما لم يرتجف من زمن ، وهي ترى فيه وجه جده القديم ، نفس الملاحة ، العينان العسليتان ، والشعر الفاحم  بغرة نافرة دائمة ، وشامة سوداء تخايل حاجبه الأيسر ، تضاعف عمر الجدة في تلك الليلة ، انتزعته من حضن أمه ، أعلنتها صارمة ، أنها ستربيه بنفسها ، ستنصب حوله الأسوار والحصون كي تمنع عنه اللعنة الممتدة ، حذرته بكلماتها ، بنبوءتها الداكنة ، كل ذلك لم يفلح معه ، وحين عاد من المقابر في تلك الليلة حاملا ناي جده بين يديه ، أقسمت على أبيه ألا يبقيه في القرية بعد اليوم ، يتذكر جيدا الحقول الراكضة بأقصى سرعة بجوار القطار الهارب، رفاقه الذين ركضوا لمسافة جوار المارد الأسود ، يلوحون له مودعين ، خيل إليه أن رفيقه الغارق يلوح له أيضا من بعيد ، بوجه شاحب وقطرات ماء تتساقط من شعره وملابسه ، في المدينة كان الصخب المفاجئ والوجوه الغريبة ، ذكرته المحطة بليالي المولد في قريته ، ذلك الطوفان البشري ، اللهجة الغريبة على أذنيه ، سنوات قضاها بعيدا عن قريته تلون لسانه بلسان أهلها ، ارتدى ملابسهم ، اعتاد ملمس الحذاء القاسي في قدميه ، بينما  تخايله رائحة العشب المندى ، وملمس الحصى والتراب تحت قدميه العاريتين دائما ، وشيش النخلة العالية في ليالي الشتاء البعيدة ، الدوائر التي يصنعها الحجر الغارق في مياه بحر المدينة ، تحمله لمياه ترعته القديمة ، فيلمح وجه كل الرفاق ، لم تسمح له جدته بالعودة للقرية أبدا ، حتى حين لحقت بجده بعد سنوات قليلة ، عاد والده وحده ليودعها مثواها الأخير ، أصوات أبواق السفن الآتية والمغادرة من الميناء القريب ، صنعت له لحنا جديدا مغايرا لنغمات الناي القديم ، أوصاه أباه في لحظاته الأخيرة ، أعدني إلى تراب قريتي ، عشر سنوات كاملة مرت قبل أن يعود من جديد ، بشعور متناقض ما بين اللهفة على العودة والخوف الكامن من المجهول ، أتته جدته في تلك الليلة كان نائما تحت النخلة القاحلة ، لمح رداءها الأسود من بعيد ، أعادت كلماتها بلا صوت ، نبوءتها الداكنة ، أمرته بالرحيل ، تناولت الناي من يديه وكسرته تطايرت شظاياه في كل صوب ، وشظية مسعورة تتجه نحو عينه ، انتفض مذعورا ، لمح رداء أبيض يطير ويختفي بين الأشجار البعيدة ، وجد نفسه يطارده ، وصوت موسيقى الناي القديم يصدح كأنما يعزفه كل الشجر ، كانت هناك بانتظاره ، بجوار الساقية القديمة ، تجلس على حافة الترعة ، تغمر ساقين كاللؤلؤ بالمياه ، اقترب منه ، كلمته بلا صوت ، منحته آلة خشبية صغيرة "هارمونيكا" ، أمرته بالعزف ، أراد القول أنه لا يجيد العزف عليها ، نظرتها الآسرة المتألقة كآلاف الشموس ، لم يجد أمامها سبيلا للرفض ، مس الفتحات المتجاورة بشفتيه ، نفخته كانت تنهيدة عشق ، انبعثت على أثرها ألحانا عذبة لم يسمع مثلها من قبل ، شعر أن العالم كله يتبدل من حوله ، ليست الأشجار هي الأشجار ، ولا النهر ولا الأرض ولا السحاب ، أمسكت بيديه ، سحبته معها ، حلقت به فوق كل المعاني والأشياء ، حين عادا أخيرا ، حذرته من البوح ،  وعدته باللقاء كلما كان البدر ساطعا ، مرت ليلة ، وبقى لديه اثنتان فقط ، شروده الدائم ، وامتناعه عن الطعام والشراب أرجعوه لحزنه الشديد على الوالد الراحل ، لم يفهم أحد سر رحلاته الليلة الغريبة بين الحقول ، إصراره على العودة للقرية كل شهر في الليالي القمرية ، كاد يخسر عمله ، ترك خطيبته التي عشقها لسنوات مضت ، شروده الدائم زرع القلق والحزن في قلب أمه ، ألحت على السفر معه في تلك المرة ، خرجت وراءه في المساء ترقبه ، لم تستطع إكمال الرحلة خلفه ، حين عاد فجرا ، أقسمت عليه بكل الأرواح لماضية ، بمرضها واحتياجها له ، أن يخبرها بسره المقيم ، أن يعود إلى المدينة ، استعانت بكل الأهل والمعارف ، أقاموا حوله المتاريس والموانع ، غلقوا الأبواب ، لم يستطع الذهاب إليها في الليلة الثانية ، حاول الفرار ، أطلق صرخات وحشية ، عوى كالذئاب ، سقط محموما شاردا يهذي ، وأخيرا نطق باسمها ، في الليلة التالية ، هرع لتلبية موعدهما الأزلي ، كلما اقترب منها كانت تهيم بعيدا عنه كطيف سابح ، سار وسار حتى تآكلت في قدميه الأرض ،  لمح آلتها السحرية على الأرض ، قربها لشفتيه ، وعزف لها كل ألحان العشق والحنين والرجاء ، التفتت إليه أخيرا ، تألقت عيناها كآلاف الشموس الغاربة للحظات ، ربما لساعات أو دهور ، في الصباح وجدوه مغشيا عليه ، حين فتح عينيه ، انتفض قلب أمه انتفاضته الأخيرة وهي تلمح نظرته الصماء ، بحدقتين اختلط بياضهما بأزرق شاحب في لون الموت .

* * * * * *

أطالع عقارب الساعة في قلق وغضب ، بينما السيارة تتوقف للمرة الثانية في نفس الإشارة الضوئية ، تلك الإشارة الضوئية اللعينة ، لا تكاد تفصح عن خضرتها حتى تشهر وجهها الأحمر الصارم من جديد ، والعقارب في سباق محموم ، سأتأخر عن عملي بسبب تلك الإشارة ، أبواق السيارات المعترضة تنطلق في عنف واعتراض ، أضغط بيدي على المقود مطلقة العنان لأبواقي الغاضبة ، أنزعها أخيرا حين يتألق الأصفر، أستعد للانطلاق، هاهو الأخضر أخيرا، أنطلق محاذرة اندفاع السيارات الأخرى، وعيني على الأحمر بقلق ورجاء ، سيارتان فقط أمامي وأعبر أخيرا ، ثوان وأصل لبر الأمان و .. أضغط المكابح في عنف فيرتج جسدي ، وأكاد أصطدم بالزجاج الأمامي لولا حزام الأمان ، الأحمر القاتم من جديد، بينما تتعالى الأبواق الغاضبة من خلفي ، اللعنة ، أترك المقود باستسلام ، لن أصل أبدا في الموعد ، أفتح النوافذ على مصراعيها عل لفحات الهواء تبرد من نيران غضبي قليلا ، تتسلل لي تلك النغمات العذبة فجأة ، أدير رأسي بحثا عن مصدرها ، ليست من مذياع إحدى السيارات ، النغمات مازالت تعلو بلحن آسر جميل ، ينسيني غضب المدير ، والإشارة المعاندة ، حين ألمحه أخيرا ، رجل بجلباب طويل ، ونظارة سوداء على عينيه تعلن عن ظلمته الدائمة ، بيده اليمنى عصاه المرشدة ، وباليسرى يرفع آلة خشبية إلى شفتيه ، تنبت زهور النغمات والألحان، براعته الشديدة في العزف جعلتني أتمنى ألا تفتح الإشارة أبدا، تعجبت كيف تستطيع آلة صغيرة إخراج كل ذلك الزخم الموسيقي، كان بارعا حقا، يعرف لحنا عربيا قديما لموسيقار الأجيال، أبدله فجأة لأغنية مرحة من أغاني العندليب الأسمر ، وجدتني أردد الكلمات ، أغني مع اللحن ، لست وحدي من فعل ذلك، كل قائدي السيارات والراكبين والراجلين ، كانوا يرددون الأغنية ككورال جماعي موحد ، قبل أن تكتمل ، أعلن الضوء الأخضر عن حتمية السير ، لحظات من التردد راودت الجميع ، قبل أن يعاودوا السباق من جديد ، في الأيام التالية لم يعد يشغلني كثيرا التطلع إلى عقارب الساعة ، أو مراقبة الإشارة المتبدلة في جنون، احترفت البحث عن العازف الغريب ، استدعاء ألحانه ونغماته الساحرة ، يبدل بينها في إتقان وبراعة ، اقترب مني كثيرا في تلك المرة ، استطعت تبين وسامة رجولية تسكن ملامحه لم تخفيها نظارته السوداء ، أو تبدل منها تلك الشعيرات البيضاء على فوديه ، تسمرت عيناي على تلك الشامة السوداء فوق حاجبه الأيسر، تذكرت صورة عائلية قديمة تقبع في دفتر قديم ، وحكايا عمتي عن الجد والأخ المسحور ، عن القرية القديمة ، والنبوءة الداكنة، والجنية العابثة، انساب منه في تلك اللحظة لحنا رومانسيا عذبا، يحمل نداء آسرا لحبيب بعيد مجهول ، بدلت الإشارة الضوئية ألوانها في سرعة وجنون عدة مرات، لم تحرك أي من السيارات المتزاحمة إطارا واحدا ، حتى أبواق السيارات الأخرى ، كانت تأتي كسيمفونية بعيدة ، كصدى خافت ، لم يستطع حجب نداء العازف أو فك تعويذته السحرية بينما أقسم الجميع، أن العازف اختفى بعيدا ، مع تلك الفاتنة بردائها الأبيض المرفرف في نعومة، تاركا نظارة سوداء قديمة،  بينما ظل لحنه معلقا في الهواء ، وأن هذا اللحن يعلو صوته أحيانا كلما مر عاشقان ، عند  اكتمال القمر  .

ليست هناك تعليقات: