ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

مقالي عن رواية "سيدي براني" في جريدة القبس 5/12/2010

"سيدي براني"
حيث الحكاية تمنح الحياة لأصحابها
من يمتلك سحر الحكاية يمنح الخلود،ومن يفرط في حكايته يموت،عبارات تتردد كنبوءة،وكلحن حزين ومنذر على مدار فصول وحكايات تحتشد بها رواية "سيدي براني" للكاتب المصري"محمد صلاح العزب"،ولأنها روايته الرابعة،استطاع فيها العزب بلورة اتجاه مطرد في كتاباته ،يمزج الواقعي بالأسطوري في مهارة ومرونة صياد بارع ،ينسج خيوط شبكة من الحكايات توقع كل من يجرؤ على الولوج إليها.
" وما دمت قد دخلت فلن تخرج ... حتى تشق قلبك بسكين كبير من الداخل ..شقا يتسع لخروجك "
يفتتح " العزب" أول فصول رواية " سيدي براني" الصادرة عن دار "الشروق"، بذلك التصدير للفصل الأول منها ،ورغم التحذيرات نقبل بابتلاع الحبة الحمراء، حيث الذهاب بلا عودة،فيدخلنا "العزب"عالما من الحكايات الواقعية والأسطورية في حلقات متتابعة تصيب بالدوار، حكايات عن حيوات الجد المتعاقبة بلا موت يدوم ، وحكايات أخرى جانبية كثيرة نقع تحت سطوتها ، ندور في دائرة لا نكاد نصل لنهايتها حتى تبدأ من جديد بأسلوب الحكي الشفاهي الذي يعيدنا إلى التراث الأدبي الشعبي ،فلا يدرك شهر زاد الصباح إلا بعد وعود بمساءات جديدة تعيد فيها الكلام المباح ، تدخلنا غابة سردية متشابكة الدروب، نبحث فيها عن طريقة للخروج بلا جدوى. وبسرد شديد التكثيف،يعيد صاحب" سرير الرجل الإيطالي" و"وقوف متكرر" للكتابة الروائية وظيفتها القديمة في الإمتاع والتسلية،بلغة تحمل جمالياتها الخاصة،وخيال خصب متدفق يمنح الحكايات سحرها وإغوائها ، وبرغم تنوع الحكايات واختلاف شخوصها، ورواتها أيضا،ينسجها الكاتب في خيط رئيس هو "حكاية الجد " تتفرع منه باقي الحكايات الجانبية،وتصديرات تعنون كل فصل جديد لتنتج في النهاية نصا واحدا موحيا ومؤكدا على أن متعة السرد والحكي هي الأساس وهي الغاية والوسيلة معا.
الراوي هنا هو الحفيد الذي مات والداه ،فكفله جده المقيم في "سيدي براني" بالرعاية ،ليجد غايته في النهاية هي نقل الحكايات التي يسمعها،حكايات جده الأسطوري المهيب الذي عاش عدة حيوات سابقة (ثلاثة عشر حياة ) كان فيها دائما هو الحاكم والآمر والمسيطر على كل ما حوله في جزر وأماكن خيالية تماما وبلا أسماء،وفي كل ميتة كان ينصب له ضريح يحمل اسم "الشيخ " فقط فلا يعرف له أحد اسما حقيقيا ،ومن خلال أربع حيوات فقط  تتضمنها "سيدي براني" و يعرفها الحفيد من خادم الجد "سمعان" (وكأن الاسم يلقي ضوءا على وظيفته وهي  الإنصات إلى حكايات الجد)،تصيبنا الحيرة في توصيف هذا الجد الذي يجمع بين الصفات المتناقضة ،هل هو تقي صوفي يستحق القداسة التي منحها له الآخرون ،أم شيطان متسلط شهواني يتخذ من عشرات النساء متاعا على مدار الحكايات والحيوات. تلك هي الحكاية الأسطورية التي استمدت كثيرا من الميثولوجيا الإغريقية و فكرة تناسخ الأرواح الهندية، وعدة اقتباسات من كتاب "الطاو" .
أما الحكايات الجانبية والتي تدور أحداثها كلها في حياة الجد الأخيرة التي تمثل الجانب الواقعي في الرواية ،والتي تنقسم هي ذاتها لحكايتين وحياتين،فهناك أماكن محددة وواقعية " كالقاهرة"  وفرنسا حيث بداية الحكاية، ثم الاستقرار الأخير في " سيدي براني" ،حياة تتقاطع معها حيوات باقي الشخوص ،" سمعان ، طيبة ، غزالة ، الحفيد ،و مريم " وإن كان كل شخص آخر يحمل أسطورته الخاصة ويحكيها للحفيد الذي يقع تحت سطوة الحكايات.
من يملك حكايات أكثر يملك عدداً أكبر من المُنصتين، ومن يملك حكاية ساحرة يعود إليه من يحبهم مهما ابتعدوا عنه"
لكن لماذا "سيدي براني " تحديدا ؟ ربما لأنها مدينة حدودية صحراوية،فهي المكان المثالي لتكتمل منظومة الحكي الشعبي والأسطوري،ولتمنح ذلك الشيخ الغريب هالة الصوفية والغموض ليفرض سطوة لم تكن لتمنحها له مدن القرن الحادي والعشرين ،أو ربما لتتوحد أسطورته بـ"سيدي براني" الشيخ المارق الهارب إلى الحب والصحراء ،والمختفي بهالة أسطورية في نهاية الأمر وكأن "الجد" هو روحه العائدة لنفس المكان،أو لتتولد أساطير الحب المستحيلة في واحة حدودية ،هي مكان للعبور بين أماكن أخرى مختلفة (مصر وليبيا) الحضارة والبداوة،فيقع رجال المدينة المارون في عشق البدويات لكن " البدوية لا ينكحها إلا بدوي" فتنشأ الحكاية وتستمد نفس المفردات القديمة "العشق واللوعة والفراق".
وكما كانت وظيفة "سمعان" هي سماع الحكايات حتى إذا ما نتهت يسمح له الجد بالرحيل، تبدو مصائر الشخوص جميعا مرتبطة بهذا الجد يحركها ويوظفها لغايته كما يشاء، فيكون لقاء حفيده بمريم ، ووقوعها في حبه ،ليحكي لها الحفيد .
في حواره الوحيد مع جده ، ذلك الحوار الصوفي بين عقلين دون صوت ودون كلام ، يؤكد الجد أن حيواته المتعددة زادها هو الحكايات ، فبدون الحكايات يكون الموت الحقيقي ، وطالما الحفيد يحكي ، سيظل الجد حيا مئات المرات. يقول :
" صاحب الحكاية مثل نهر قادر على أن يغرق الجميع ، لكنه يرأف بهم فيطلقهم حتى يرووا ما سمعوه منه فيعيش أكثر"
فكما تتوالد الحياة من الموت ، تتوالد البدايات من كل نهاية ، فبرغم موت الجد ، ومغادرة الحفيد "سيدي براني " إلى القاهرة  يكون التصدير الأخير " وما دمت قد دخلت فلن تخرج" ويظهر وجه الجد في كل مكان محاصرا لحفيده ،وكأن روحه تعود للسيطرة عليه، في نفس لحظة لقائه بمريم ، فيختتم الرواي روايته بقوله "أنت لم تسمعي الحكاية من أولها يا مريم سأحكي لك"  ليمنحا الجد ، وجميع الشخوص الأخرى التحقق و الحياة مرات ومرات بلا نهاية رغم الموت والغياب.
" كل الحكايات حكاية واحدة ، والحكاية هي الأبد ، ومن يفرط في حكايته يموت ، ولا يموت إلا من تنقطع حكايته "
ثم ينهي " محمد صلاح العزب" روايته بإهداء إلى روح جده الحقيقي وكأنه يعيد كتابة سيرة عزلته الاختيارية في " سيدي براني ".
جيهان عبد العزيز

ليست هناك تعليقات: