ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


الأربعاء، 29 أغسطس 2012

se7en " سينما الواقع المرعب"

أيهما أكثر رعبا الواقع أم الخيال ؟
هل طرح أحدكم هذا السؤال على نفسه وهو يشاهد فيلما حديثا من أفلام الإثارة الأمريكية, أو ربما وهو يشاهد الأخبار في القنوات الفضائية , هل عقد مقارنة بين أفلام الرعب التقليدية , و بعض أفلام السينما الأمريكية الحديثة ؟
تلك الأفلام التي لا تصنف كأفلام رعب , ربما لأنها لا تتضمن أشباحا , أو بيوتا مسكونة , أو غزوا فضائيا ....، لكنها تتضمن ما هو أكثر وطأة من الرعب الخيالي , حين تكشف عن واقع مرعب نعيشه .
فحين شاهدت أفلاما مثل: ( الخطايا السبع)( seven ) ---اختفاء( vanishing))
(نادي القتال) fight club)) , أدركت كم يمكن أن يصير الواقع أكثر رعبا من الخيال ، لأنه _ بعكس الخيال _ يمكن أن يحدث لك ، فاحتمالات أن تسير في شارع مظلم وخال ٍ فيظهر لك لص يهددك , قد يسلبك في لحظة كل ما تملك ماديا ونفسيا ومعنويا , بل ويهدد حياتك نفسها , أكثر بكثير من احتمال ظهور " عفريت " من الجن.
إنه عنف أعمى وقاس ولا يحمل أية ضمانات أو تأمين مسبق ومضاد له ، فأسباب الاعتداء وصوره تعددت جدا حتى صارت بلا ضوابط , أصبح من الممكن أن يتعرض امرؤ للاعتداء لأي سبب من الأسباب ، لأنه غني أو فقير ، أبيض أو أسود ، جميل أو قبيح ، ملتزم دينيا أو غير ملتزم .
، و (سينما الواقع المرعب ) أو (سينما الرعب الواقعي) ، هي اتجاه سينمائي جديد يقدم لنا أفلاما تدور موضوعاتها حول الجرائم …. جرائم غامضة وغريبة , لا يقوم بارتكابها سفاحون أو مجرمون , إنهم أفراد عاديون من أفراد المجتمع, بل ربما كانوا ينتمون لمن نصنفهم كأشخاص من الصفوة , لكنهم فجأة يتحولون إلى مركتبي جرائم ، ذات دوافع مخيفة لأنها غير متوقعة ، ويتم تنفيذها بأساليب مبتكرة ، شديدة التعقيد والذكاء و الوحشية ، .... إنه عنف ناتج عن عبثية الحياة , نابع من عنف الواقع اليومي المعاش الذي نراه ونعيشه من خلال أحداث العنف في العالم كله ، وفي كل المجتمعات. عنف تطلقه الأغاني وتبثه النشرات , ويهتف به
الساسة في خطاباتهم , وتئن منه الشعوب وتكتسبه في نفس الوقت , عنف ناشئ عن غياب الإحساس بالأمان, عن انعدام المثل , وغياب النموذج.
هذا العنف هو ما دفع بكتاب سينمائيين مثل " أندي ووكر " " Andrew Kevin Walker"
David Fincher و " مخرج ك " دافيد فينشر "
إلى إعادة إرساله إلى المجتمع من خلال شاشة السينما بفيلمهما ، Se7en "" , عام 1995م ، ثم يعاود نفس المخرج التجربة مرة ثانية في عام 1999م بفيلم لا يقل رعبا و بشاعة عن سابقه ألا وهو فيلم " Fight Club"
" . والذي يشارك فيه أيضا بالبطولة النجم الأمريكي " براد بيت " ، الذي ما يفتئ يفاجئنا بتجسيده لتلك الأدوار السينمائية الصعبة كدوره في " أسطورة الخريف " ، أو " لقاء مع مصاص الدماء " ، مما جعل " دفيد فينشر " يلتفت إليه ، ليجعله بطلا أساسيا مجسدا لإنسان ذلك العصر المرتبك ، ومعبرا عن الصراع النفسي العنيف الذي يعتمل بداخله ، و ليضيف " براد " بهذين الفيلمين " رصيدا جديدا لأدواره المميزة ، وأفقا أكثر اتساعا لأدائه السينمائي .

* ( الخطايا السبع ) 1995م (Seven) Brad Pitt
(مورجان فريمان) / (براد بيت ) / (كيفين سباسي)/ (جواينيث بالترو).
تدور أحداث الفيلم حول المحقق الشاب ( دافيد مايلز /براد بيت) المتحمس لحل ألغاز الجرائم والقبض على المجرمين , والذي يتم نقله حديثا إلى ولاية أمريكية أخرى ، تتسم بانتشار جرائم العنف , ليحل محل ضابط قديم سيتقاعد بعد أسبوع
( ويليام سومرست /مورجان فريمان) , لكنهما وخلال هذا الأسبوع كان عليهما المشاركة في حل سلسلة من أبشع الجرائم يرتكبها سفاح مهووس (جون دو / كيفين سباسي) الذي يتبين أنه متطرف ديني يرتكب جرائمه بهدف معاقبة الخاطئين على خطاياهم ( الخطايا السبع المهلكة ) ( الشراهة -الطمع – الكسل-الزنا-الغرور-الحسد-الغضب) وجعلهم عبرة للآخرين, وهو يخطط لجرائمه بصبر وينفذها بذكاء شديد وينفذ مشيئة الرب وتاركا في كل موقع للجريمة اسم الخطيئة التي ارتكبتها ضحيته ، واستحقت معاقبته لها ، على تلك الخطيئة القاتلة .
The Seven deadly sins"
وتظهر أحداث الفيلم الصراع المزدوج بين شخصية المحقق القديم الذي علمته خبرته الطويلة في التعامل مع تلك الجرائم ، أنهما أبدا لن يمنعا الجريمة قبل حدوثها ولن يسمح لهما السفاح بالقبض عليه إلا بعد أن ينهي مهمته كاملة , بينما يسعى المحقق الشاب بعناد شديد إلى محاولة إيقاف القاتل قبل أن يكمل جرائمه ، إلا أن هذا الأخير يسبقهم دائما بخطوة , بجريمة جديدة تكون مفاجأة في مدى بشاعتها عن سابقاتها ,وتاركا لهما في كل مرة دليلا يقود إلى الجريمة التالية .
فكرة الفيلم:
العنف كعقاب وانتقام من مظاهر الفساد في المجتمع , هي الفكرة التي يتبناها الفيلم, _ والتي تعد أيضا هي الفكرة الرئيسة لفيلم " نادي القتال " مع اختلاف القصة والتناول والإخراج السينمائي " _ وهو عنف ناتج عن انعدام القيم واضطراب المجتمع, فضحايا هذا القاتل هم جميعا مذنبون ومرتكبون للخطايا , وهوالقاضي الذي حكم عليهم , والجلاد الذي قام بتنفيذ الحكم ، فالضحية الأولى بدين شره, تنقل لنا عناصر المشهد السينمائي مدى بشاعة مظهره , والكاميرا تنتقل من لقطات قريبة لجسده الضخم المليء بالعروق الزرقاء النافرة , ملابسه وأصابعه القذرة , وجهه المدفون في طبق المعكرونة التي كان يتناولها ، إلى جولة في أنحاء منزله لتبدو القذارة في كل ركن ,علب الطعام تملأ المكان كله , الحشرات والفئران تسعى في كل مكان. وكما يقول القاتل عنه :
" رجل إذا رأيته وأن تتناول الطعام فلن تستطيع أبدا إكمال وجبتك "
الضحية الثانية محام مشهور شديد الثراء ؛ لترافعه في القضايا الكبيرة، والحصول على الرشاوي، وتعامله مع رؤساء العصابات .
أما الثالث فلص منحرف وتاجر للمخدرات, و الضحية الرابعة عاهرة في إحدى نوادي الدعارة الكبيرة , والخامسة امرأة شديدة الجمال ,متكبرة, تستغل جمالها في السيطرة على الرجال
النماذج السابقة كلها نماذج منتشرة في المجتمع , تمارس رذائلها بشكل علني ,بل و يكاد يكون المجتمع نفسه شريكا في التواطؤ على وجودها.
عنف الخيال وحدود الصورة.
ربما يكون من المتوقع إذن احتواء الفيلم على العديد من المشاهد العنيفة , تصاحبها موسيقى تثير التوتر والترقب لتصل ذروة المشاهد مع الضربات العنيفة والصرخات العالية ولطخات الدماء على الشاشة حتى تكاد تخترقها إلى المشاهدين , ربما توافق هذا أكثر مع أفلام "سبيلبيرج" , أو "ميل جيبسون" ، لكننا في هذه الأفلام نجد رؤية إخراجية أخرى , تنقص من قيمة عنف المشهد أمام تخيل أحداثه , فالقاتل نفسه يقوم بوظيفة إخراجية لجرائمه بحيث لا يتم اكتشافها إلا بعد تمام تنفيذها كما يريد هو , ويترك لنا المشهد منتهيا لنرى عمله الفني الأخير , الضباط -ونحن معهم -يصلون إلى مسرح الجريمة بعد انتهاء المسرحية , لتساعدنا الدلائل التي نجمعها على تخيل الأحداث العنيفة التي وقعت , فنجد أن تخيلها أضحى أكثر إثارة للرعب في النفس, من حدود الصورة أو المشهد السينمائي , الرعب هنا ليس في مشاهد القتل ولكنه في تلك الطرق المتوحشة التي قد يبتكرها الإنسان لتعذيب وقتل وتشويه الآخر ، فالشخص البدين الشره نكتشف في معدته شرائح معدنية أرغمه القاتل على ابتلاعها لتمزق جهازه الهضمي كله, والمحامي الطماع يرضخ لتقطيع كيلوجرامين من جسده ينزف معهما دمه طوال ثلاثة أيام كاملة , أما تاجر المخدرات نكتشفه مقيدا في فراشه منذ عام كامل و قد صار هيكلا عظميا حيا ممتلئا ما تبقى من جسده بقروح الفراش , وقد أبقى القاتل على حياته من خلال حقنه بالسوائل وقبل أن يستجوبه الضباط ليخبرهم عن شخصية القاتل يخبرهم الطبيب أنه "قد أصيب بالجنون وابتلع لسانه منذ زمن بعيد" ، أما جريمته الرابعة " قتل العاهرة " فيقص أحداثها ضحية أخرى شارك مجبرا في ارتكاب الجريمة , لتلتصق برؤوسنا صورته ,وكلماته وهو في حالة مفزعة من البكاء والارتجاف.
"- لن أستطيع معاشرة أي امرأة ما حييت بعد الآن, فلن أنسى أبدا مشهدها أو صوت صرخاتها وأنا أفعل بها هذا "
كان الفعل هو معاشرة إحدى العاهرات وهو مرتد لآداه حادة من الجلد والمعدن بينما مسدس السفاح ملتصق برأسه .
ومازالت المفاجآت تتوالى حين تكون الجريمة الخامسة قطع أنف المرأة الجميلة المتكبرة ثم إعادة لصق أنفها بلاصق قوي ليتشوه منظرها تماما , وبالطبع لم ينته الأمر فهو يلصق بإحدى يديها سماعة الهاتف إذا أرادت طلب النجدة , وباليد الأخرى علبة حبوب تساعدها على الانتحار .
" إنها إمرأة شديدة القبح من الداخل لدرجة أنها لا تستطيع أن تحيا دون أن تكون شديدة الجمال من الخارج ."
كل هذه التفاصيل المرعبة يتم اكتشافها تباعا ,فنحن لا نرى أي جريمة أثناء وقوعها ولا حتى باستخدام تقنية( الفلاش باك) ، فالفيلم لم يعرض أي مشاهد عنف حقيقية - سوى مشهد المطاردة بين الضابطين والقاتل _لكن العنف والرعب الحقيقيين , كانا في ذلك الخيال البشري الذي خطط ودبر ونفذ جرائمه بذكاء وصبر شديدين , وروح قاسية بلا حدود , لتصير كل جريمة أبشع من الأخرى في فكرتها وطريقة تنفيذها , حتى جريمته التقليدية الأخيرة , صارت أبشع الجرائم على الإطلاق ربما لأن صاحبتها (زوجة المحقق
/ Gwyneth paltrow) Gwyneth Paltrow
كانت الضحية الوحيدة التي لم ترتكب خطيئة لتعاقب عليها . حتى تلك الجريمة لم نرها لكننا أدركنا مدى بشاعتها من ملامح العبقري (مورجان فريمان) حين فتح الصندوق الذي أرسله لهما القاتل ليكتشف رأس زوجة زميله بداخلها فيندفع جسده كله للوراء في عنف وهو ينظر تجاه زميله ملتاعا وقد أدرك نية القاتل .





المجتمع كشريك أساس في ارتكاب الجريمة:
انهيار القيم يولد العنف , نصب القاتل نفسه جلادا يحاكم أفراد مجتمع فاسد وينفذ الأحكام فيهم , يساعده على ذلك فسادهم أنفسهم , أو حتى الأنانية وعدم المبالاة , والطمع الشخصي, فالشخص المقيد للفراش لمدة عام كامل في مبنى سكني مزدحم لم ينتبه له أحد الجيران أو حتى صاحب المنزل نفسه , وربما كان ذلك ليستمر أكثر لولا أن القاتل نفسه هو الذي أراد اكتشافه.
" إنه الساكن المثالي , لم يتأخر يوما في دفع الإيجار , ولم يشتك منه أحد من الجيران"
وحين يستجوب المحقق الحارس في بيت الدعارة فيسأله عما إذا كان القاتل يحمل شيئا معه , تكون الإجابة:
" الجميع يحملون أشياء معهم حين يأتون ‘ بعضهم يحمل عددا من الحقائب "
ليكون ذلك دلالة على مدى انتشار الفاحشة في المجتمع والتواطؤ على وجودها، بينما يشير الرجل الذي طلب منه القاتل صنع الأداة التي مزقت جسد العاهرة إلى نوع آخر من الاضطراب في المجتمع . فحين يسأله المحقق _ ألم ترتاب في الرجل الذي طلب منك صنع تلك الأداة الغريبة ؟
-" لن تتخيل مقدار الأشياء الغريبة التي يُطلب مني صنعها "
ربما يؤكد ذلك وجهة نظر السفاح في أن ضحاياه ومن حولهم كانوا مذنبين بقدره , هم من ساعدوه على ارتكاب جرائمه , هم من يسروا تلك الطريقة لأنفسهم.
إنها سخرية مريرة قاتمة ومرعبة , وإنذار بالهلاك للجميع , كهلاك (سدوم) و(عمورة ).
وفي أحد المشاهد الهامة حين تصل الشرطة لمنزل القاتل الذي يدل كل ركن فيه على مدى تطرفه وجنونه , فهناك ذاك المحراب الخاص المصطبغ باللون الأحمر , ومعمل تحميض الصور حيث توجد صور كل الجرائم التي ارتكبها السفاح , يسجل القاتل يومياته المخيفة التي تملأ عشرات المجلدات , والتي توضح أفكاره المتطرفة المجنونة والسادية في عنفها و شذوذها.
و يقرأ المحقق" سومرست" بعض ما جاء في تلك اليوميات :
" وأنا جالس في مترو الأنفاق اليوم ، اقترب مني رجل ليتبادل معي الحديث ، بدأ حديثا وديا قصيرا ،كان رجلا وحيدا يتحدث عن الطقس وأشياء أخرى ، حاولت أن أبدو سعيدا ومجاملا له ، لكن رأسي بدأ يؤلمني بشدة من جراء تفاهة حديثه وابتذاله ، و إذا بي فجأة أشرع في التقيؤ عليه ، لم يعد الرجل سعيدا بالمرة ، أما أنا فلم أستطع أبدا الكف عن القهقهة.

الحوار:
للحوار في هذا الفيلم دور أساس , بل لن نبتعد عن الصواب إذا قلنا أن بنية الفيلم قائمة على الحوار بين الشخصيات , فهناك دائما الجدل المستمر والقائم بين الضابطين (القديم والجديد)
حيث يتكشف من خلال ذلك الجدل أفكارهما المتناقضة , ثم محاولات تحليل الجرائم, واستنتاج شخصية القاتل .
ثم الحوار بين المحقق القديم ( سومرست ) -(مورجان فريمان)- ,و زوجة المحقق المذعورة (ترايسي مايلز ) التي تشكو له وحدتها الشديدة وخوفها على زوجها الذي يمارس عملا خطيرا في ولاية جديدة وعنيفة ثم تبوح له بأكثر الأمور إثارة للقلق لديها وهو اكتشافها أنها حبلى , هنا يخبرها (فريمان ) أنه خسر حبيبته لأنه أراد منعها من الإنجاب , فهو يعيش العنف , يراه ويلمسه يوميا , و لم يرد لطفله أن يولد في عالم عنيف , غير آمن .
ويليام سمرست : منذ عدة أيام حققت في جريمة ,كان لصٌ قد هدد عجوزا , فانصاع له الأخير وأعطاه كل ما كان معه, لكن اللص وبعد أن أخذ كل شيء اقتلع عيني الرجل بخنجره ، …………..إن كنت ستحتفظين بالطفل أخبريه , وإن كان العكس , فلا تخبريه أبدا .
إنه عنف قاس , مروع وبشع , وبلا مبرر .
ثم يأتي الحوار الجدلي العنيف بين المحقق الشاب (براد بيت ) و القاتل (كيفين سبايسي) بعد تسليم هذا الأخير نفسه وفي السيارة يدور الحوار بينهما , فتظهر لهجة المحقق الغاضبة وعصبيته المفرطة وهو يتهم القاتل بالجنون ويستفزه بالتقليل من شأنه وِشأن اعتقاداته , بينما يدافع القاتل عن نفسه بهدوء شديد , موضحا استحقاق ضحاياه لهذا المصير الذي قادهم إليه , لارتكابهم جميعا للذنوب والخطايا . أما المحقق الآخر " سومرست " فهو يراقب ذلك الحوار الجدلي العنيف بينهما بتوجس شديد .
المحقق مايلز : هناك شيء ما يؤرقني ، وربما بإمكانك مساعدتي لمعرفته ، هل المجانين أمثالك ، يدركون ذلك ، أعني هل حدث لك مرة أن كنت جالسا لتقرأ إحدى روايات الجرائم اللعينة ثم انتفضت واقفا فجأة لتصيح عاليا " ياللروعة ،لكم أنا مجنون لعين ؟!
جون دو : يبدو أنه من المريح بالنسبة لك أن تصفني بالجنون .
المحقق مايلز : ذلك مريح للغاية .
جون دو : إنك حين تطلب مني أن أشفق على هؤلاء الناس ، فكأنما تريدني أن أِشفق على الآلاف الذين هلكوا في سدوم وعمورة .
ويليام سمرست : أهذا ما تريد قوله يا جون ، أنك أداة الرب ، لتنفيذ مشيئته .
جون دو : إن الرب ينفذ مشيئته بطرق عجيبة وغامضة .
المحقق مايلز : مهلا ، لقد كنت أعتقد أنك قتلت أناس أبرياء .
جون دو : أبرياء ! أيفترض أن يكون هذا مضحكا ؟رجل بدين ...، رجل مقزز يقف على قدميه بصعوبة ، رجل إذا ما لمحته في الطريق ستشير إلى أصدقائك ليشاركوك في السخرية منه ، رجل إذا رأيته وأن تتناول الطعام فلن تستطيع أبدا إكمال وجبتك ، وبعده اقتصصت من المحامي ، وأنا واثق من أنكما تشكرانني سرا على قتله ، إنه رجل كرًس حياته لجمع المال عن طريق الكذب مع كل نفس يتنفسه ، ليطلق القتلة والمجرمين في الشوارع .
المحقق مايلز هازئا : القتلة !
جون دو : إمرأة ...
المحقق مايلز: قتلة يا جون ! ، مثلك أنت نفسك .
جون دو مقاطعا : إمرأة شديدة القبح من الداخل لدرجة أنها لا تستطيع أن تحيا دون أن تكون شديدة الجمال من الخارج ، و تاجر مخدرات ، مدمن ولوطي في الواقع ، ودعنا لا ننسى تلك العاهرة ناشرة الأمراض.
فقط في عالم كهذا تستطيع أن تقول عن هؤلاء الأشخاص أنهم كانوا أبرياء . وهذا هو بيت القصيد ، فقد صرنا نرى الخطايا المهلكة تحدث أمام عيوننا عند كل ركن من الطريق ، في كل بيت ، ونتغاضى عن ذلك ، نتغاضى عنه ونبيحه لأنه أصبح شائعا وعاديا ، أصبحنا نتغاضى عنه صباحا و نهارا وليلا . حسن ! ليس بعد الآن . لقد وضعت المثال بنفسي ، فما فعلته سيظل لغزا محيرا ، ولسوف يدرس ويتبع إلى الأبد
ثم تتصاعد ذروة الحوار والأحداث في مشهد النهاية حين يحاول السفاح دفع المحقق (الغاضب دائما ) إلى ذروة الغضب حين يعترف له بأن خطيئته هو الشخصية كانت حسد المحقق على مكانته في المجتمع وحياته العادية , وزوجته الجميلة , التي يحاول اغتصابها أولا ثم يقطع رأسها.
" -لقد قمت بزيارة منزلك في الصباح بعد مغادرتك له , واستقبلتني زوجتك الجميلة, ولقد أردت القيام بدور الزوج معها , أردت أن أحياة حياة رجل بسيط ، لكن الأمر لم يفلح ، لذا احتفظت بتذكار منها ، رأسها الجميل ."
هذه العبارة تدفع المحقق الشاب إلى الغضب والانهيار التام فيصوب مسدسه للقاتل , بعد ما يوقن من ملامح وصوت زميله , أن القاتل على حق وأن ما في الصندوق رأس زوجته التي كانت تحمل طفله في أحشائها ,بينما يردد القاتل بهدوئه المثير: "أعتقد أن خطيئتي كانت الحسد ، وخطيئتك هي الغضب "
النهايات غير السعيدة :
في أحد مشاهد الفيلم يقول المحقق "ويليام سمرست ": " إن الأمور لا توحي أبدا بأن النهاية ستكون سعيدة ".
فعلى الرغم من أن فكرة الفيلم قد تبدو تقليدية في الظاهر ، فهذا هو السفاح المنظم الذي يرتكب سلسلة من الجرائم ، يربط بينها خيط واحد ، في الرؤى الإخراجية الأخرى كان سيتم ارتكاب العديد من الجرائم وتدور الكثير من المغامرات ومحاولات إنقاذ ضحايا محتملين " نساء على الأغلب " حتى يتم اكتشاف القاتل و بالتالي يدفع ثمن جرائمه وينتهي الفيلم بتنهدات الارتياح ، فقد زال الخطر _ إلا إذا أراد صانعو الفيلم إتمامه بأجزاء أخرى _ فيكون المشهد الأخير خيال القاتل مرة أخرى مع انطلاق صرخة للضحية . إلا أننا نكتشف خطأ هذا التصور في النهاية ، ولأن تلك الأفلام تتناول ما قد يحدث في الواقع ,فإن النهايات السعيدة غابت عنها, لتحتل مكانها تلك الأحداث التي تدفع في النفس غصة تستمر بداخلك وقتا طويلا بعد مشاهدة الفيلم , وتعاود الظهور من جديد مع كل تذكر له , أو مع كل رؤية تالية له.
فالرعب الواقعي يكسر النهاية النمطية السعيدة ، ليفاجئنا في فيلم "Se7en"" بتلك النهاية المفزعة حين يكتشف المحقق الشجاع الغاضب العازم على تحقيق العدالة ، يكتشف أن النهايات السعيدة قد تحدث في الأفلام فقط ،_ ليس بعد الآن _ وأن الرعب والعبثية المريرة قد يتحقق في الواقع حين يواجهه القاتل بأنه قتل زوجته بعد اغتصابها .
فيعجز المحقق وقتها عن تحقيق ما آمن به من قبل وعن محاسبة القاتل على أفعاله الشنيعة بتقديمه للمحاكمة ، حين يشهر مسدسه في وجه القاتل بعد لحظات من الألم والذهول والرفض وعدم التصديق والصراع بين كل ما آمن به وبين رغبته المدمرة في القصاص والانتقام لينتهي المشهد الختامي -الذي أبدع الجميع في تقديمه- ، بدوي الرصاصات التي بدت كأجراس حادة تدق بعنف داخل كل عقل ، ويسترجعها الذهن دائما مع انقباضة في الفؤاد من عالم غير آمن وعبثي تماما نحياه كل يوم .


Morgan Freeman *"" مورجان فريمان " : الصوت المنذر قبل ظهور القرش" :

" إذا انشقت رأس جون دو فجأة ، وخرج منها مخه طائرا ، فأريد منك أن تكون متوقعا لذلك " _" ويليام سمرست " محدثا " دافيد مايلز " .
لم تكن تلك المرة الأولى التي يجسد فيها " مورجان فريمان " دور ضابط البوليس ، وإن كنت أود الإشارة إلى تميز وجدة الأداء في تلك المرة ، فالمحقق ( سمرست ) الذي هو في طريقه إلى التقاعد ، أورثته مهنته غير التقليدية في التعامل اليومي مع أشد أنواع الجرائم قسوة ووحشية وعبثية ، أورثه ذلك ألما و يأسا وكرها للواقع المعاش ، فقد أصبح يؤدي عمله مكرها ومتلهفا على التقاعد ، ليعتزل العالم ، فيستأجر بيتا على البحر في مكان ناء ليعيش ما تبقى من حياته بهدوء وسلام ،بعيدا عن تلك المدينة المرعبة بجرائمها الوحشية . وهو يمتلك حدسا سوداويا صائبا تجاه ما يقابله من جرائم ، و كأنه استطاع النفاذ لذلك الشر القاتم داخل النفس الإنسانية . فهو ومع الجريمة الأولى للسفاح يحاول الانسحاب و يرفض أن يتولى إكمال التحقيق مع المحقق الجديد " مايلز " بل ويحاول تحذيره . لكن ذلك الأخير بعناد طفولي ومحاولة إثبات للذات يرفض و يتمسك بالتحقيق . و سمرست الذي اختار في الماضي أن يمضي حياته وحيدا بعد أن رفض إنجاب طفل في ذلك العالم المرعب الكريه . نجده طوال الأحداث ، وبما يمتلكه من حدس منذر بالخطر ، يحاول دائما إنذار وحماية زميله " المحقق مايلز " ربما بشعور أبوي تجاهه ، وبإحساس ما بالمسئولية . وربما هذا ما دفعه لاستكمال التحقيق معه ومساعدته فيه . إن ذلك الحدس الغامض بالنهاية القاتمة يشبه صوتا خفيا منذرا مصاحبا للمشاهد طوال أحداث الفيلم ، يذكرني بتلك الموسيقى التصويرية التي كانت تسبق ظهور القرش دائما في أفلام " سبيلبيرج " و التي استعاض عنها " دافيد فينشر " بشخصية وأداء " مورجان فريمان " و جمله الحوارية المنذرة .
" لقد كتب إرنست هيمنجواي مرة " العالم مكان جميل ، يستحق الصراع من أجله "
أتفق معه في الجزء الثاني . / " ويليام سومرست " .

الخميس، 29 مارس 2012

محاولات للانفلات

نصحني صديقي اللدود بأن أرى الناس و الأشياء (من بره ) حتى أنفلت من نطاق التورط ، لم أقتنع بوجاهة فكرته في البداية حتى قمت بتنفيذها بالفعل ، كدت أنجح في ذلك تماما لولا (الأحلام ) المزمنة التي تطاردني فتعيدني لنفس الأماكن والأحداث .

شيء آخر كان يعكر صفو الانطلاق والرؤية البرانية ، وهو أوقات العودة الفعلية والالتقاء بنفس الأشخاص .

لكنني وجدت طريقة أخرى لعدم التورط من جديد في حياة لم أرغبها منذ البدء ، التعاطف الخارجي ، والفرار السريع .

علي أن أعترف أن محاولات خروجي المستمرة ، البعد والكلام من بره الحدث كانت قديمة ومتكررة ، أفضلها على الإطلاق هو السفر والإقامة الدائمة بعيدا جدا ، بعيدا بُعد مسافة الطائرة والأمكنة والأحداث والأشخاص الجدد ، وحتى اللهجة المختلفة ، ونمط الحياة المغاير تماما .

سأركب الطائرة للمرة الأولى -من مصر إلى الكويت-، وأتعرف على عشرات الأشخاص الجدد ، وسأرتكب بالطبع الكثير جدا من الحماقات

ستفاجئني وتسعدني "الكوفي شوب " كانت من أوائل الأشياء التي كتبت له عنها ، أخبرته عن العمالة الآسيوية فيها "هنود وفلبين " وقليل من الجنسيات العربية .

منذ الولوج الأول تفاجئني التحية وكأنني أدخل بيت صديق حميم ، يلاقيني بالشوق والترحاب ، ابتسامة تملأ الوجه ، ونبرات صافية مرحبة " hi mam" " good evening mam" الجميع يقومون بالتحية وكأنني ضيف شرف ، هو أيضا سيسعد  بذلك حين نلتقي هنا  ، في الإسكندرية . كان ومازال يصاب بالضيق الشديد من مطاردة الندل لنا حين نتمشى على الشاطئ كل يحاول إجبارنا على الجلوس في مقهاه .

" مقهى كولومبوس " كان مكاني المفضل في البداية ، بموقعه المرتفع بعدة سلالم رخامية ، وإطلالته الخارجية في الهواء ، على الشارع الرئيسي ، أحب متابعة السائرين في الشارع ، أشعر بالونس من رؤية الناس ، تمنيت كثيرا أن يكون معي ليشاركني تلك الجلسات ، خاصة في فبراير حيث الجو الربيعي والنسمات الجميلة ، الأضواء والألوان ، المحال والسائرين ، معظمهم يحمل الأكياس البلاستيكية الملونة تعبيرا عن ثقافة الـ" shopping " طابع المكان المميز .

هنا لن تكون للعباءات والأشمغة السيطرة على المشهد ، بل الوافدين " لبنانيين وسوريين ومصريين ، أمريكان وأجانب آخرين ، آسيويين " الملابس مودرن ، الوجوه باسمة ، والأحاديث ودية ، بعض الأيادي المتاشبكة ، والمساحات المكشوفة من الجسد كثيرة ومتنوعة .

" فرابتشينو " " كابتشينو " " موكا " " كافيه لاتيه " قائمة من أسماء المشروبات الغريبة ، تعرفت فيها على " الكابتشينو " فاخترته مباشرة ، الحديث طوال الوقت باللغة الإنجليزية ، أو " العربية الكويتية الآسيوية " التي لم أكن أفقه فيها شيئا فكنت أختار الإنجليزية ، أحمل طلبي وأعود لطاولتي في الخارج " thank you mam " ، أسعدني اللقب كثيرا ، ربما كان بشرة خير لاقتراب زواجي وحصولي على لقب " مدام " ، هذا اللقب الذي كان يمنحه لي البائعون في الأسواق الشعبية .

أصبحت أحمله رسميا الآن ، لقبا آخر لم أحبه أبدا ، يناديني به السائق الصعيدي " محمد " وحارس السكن " عادل " ، " الأبلة جيهان " ، لكنني أجد أهمية الحفاظ عليه ، للإبقاء على بعض الحدود الهامة في التعامل .

إذن صحيح

" للغربة منطقها الخاص ، وقوانينها أيضا "

السالمية / الكويت

الجمعة، 3 يونيو 2011

ان تكون مدرسا للغة العربية

في بلادنا معنى أن تكون مدرسا للغة العربية يساوي ان تكون فقيها
لذا تاتي الأفلام بتلك الصورة الساخرة لمدرس العربي الذي يتحدث بعربية مقعرة
ويرتدي ملابس الشيوخ
لكنها "رثة" ويتقاضى على مهنته بيضة ورغيف
لذا تخيلوا مدى الصدمة والذهول والأفواه المتدلية للأسفل
حين يفاجأ فريق العمل بمدرسة ما
بشخصي المستفز دائما
فتاة كاجوال لا ترتدي الحجاب
وتعلن بكل صفاقة أنها مدرسة للغة العربية
ربما لأن تدريس العربية (في بلادنا) يعني تدريس الدين الإسلامي (بالمرة) لم يكن هذا مستغربا منذ عقد أو عقدين
ربما لأن كل من قمن بتدريسي اللغة العربية من مدرسات كن غير محجبات
فضلا عن أن ارتداء الخمار أو النقاب
كان شيئا نادرا في مدينة كإسكندريتي
وكان له معنى انتماء سياسي معين
أعود إلى الأفواه المتدلية والعيون المغلقة باتساع عند معرفة هويتي
ليس في العمل فحسب ، ولكن ايضا حين تسالني من بجواري في مقعد الطائرة عن مهنتي
او اي غريب آخر

لذا اخذت اتفنن بلعبة البحث عن وظيفة اخرى
خاصة مع اناس يتم معهم التعارف للمرة الأولى أو الأخيرة
فمرة اعلن انني مدرسة موسيقى ، او رسم ، او تربية بدنية
أو لغة انجليزية
أحيانا اذكر  كتاباتي (الصحفية) أو مغامراتي  كمذيعة
هنا ترتسم ابتسامة ثقة وارتياح على وجه من يحدثني
لأنني اخبرته بما يتوقع تماما
لكنني وقعت في مازق جديد
إذ كان علي احيانا التعرض لنفس الموقف حين افصح عن جنسيتي المصرية
فشكلي بالنسبة للمقيمين حيث انا الآن اما لبنانية او تونسية واحيانا هندية
ينقذني من ذلك تعقيبي الفوري بأنني من (الإسكندرية)
كم مرة تعرضت لذلك الموقف مع الغرباء
لم اعد استطيع العد
الآن انا مطالبة بالإثبات
انني مسلمة ومصرية ومدرسة للغة العربية
كلمتي لم تعد كافية
والإثبات الشكلي والمظهري الذي يريده الاخرون
ليس من ضمن قناعاتي الشخصية
او طريقتي في الحياة
طبعا اللهجة تنقذ مسالة الجنسية
أما فكرة الدين
أعتقد انها شاني الخاص
اما كوني ضليعة بقواعد اللغة العربية
فكثيرا ما كان علي بذل جهد اكبر وأكثر بكثير من زميلاتي (المخمرات والمنتقبات) لإثبات تفوقي في مجال تخصصي
والذي اخترته عن حب وقناعة
(كنت ساذجة( علامات الدهشة والذهول كانت تعاود الظهور مع كل اكتشاف لمهاراتي ليس في التدريس فحسب او كمية المعلومات
ولكن في كيفية التعامل والقدرة على توصيل (المعلومات الجامدة) بطرق مبتكرة وسلسة
في احدى مرات عودتي من القاهرة الى الكويت
رفض ضابط الجوازات المصري (خفيف الدم) ختم جواز سفري إلا بعد أن اجبته عن سؤال
في قواعد اللغة العربية
ربما ليتاكد من ان هويتي في الجواز السفر ليست مزورة

المسالة الأكثر تعقيدا (ليس بالنسبة لي) تدريس مادة التربية الإسلامية
وكانه من المفترض ايضا
أنني لا اعلم شيئا
عن الدين الذي نشات عليه
وتعلمته في المدارس
وحفظته اكثر من الأفلام والمسلسلات العربية الدينية
"فجر الإسلام " " وأغاني ياسمين الخيام "دعوة إبراهيم ونبوءة موسى " وغيرها
فضلا عن انه بالطبع هناك ما يسمى بالكتاب المدرسي والتحضير المسبق للدروس
ومؤخرا حضور دورة لتعلم تجويد القرآن
على العموم
انا احمل عن جدارة لقب (الأبلة جيهان) مدرسة اللغة العربية
اللي للأسف وللعار والشنار
بتحط كالونيا

وللحديث بقية

السبت، 19 فبراير 2011

ألم أقل لكم ؟

"رغم عشقي المؤلم للحواديت،واستئثاري بالقدرة على الحكي بين رفاق الطفولة والصبا،رغم خروجي الدائم خارج حدود الجدران الأربع  بالخيال غالبا،كنت دائما طرفا غائبا عن المشاهدة العيانية لمغامرات الشارع وأحداثه،شارعنا الذي يضيق قرب بيتنا ثم يترك لنفسه كل البراح بعيدا عنه،تصلني أخباره وأحداثه من أفواه الجارات اللاتي يمتلكن شرفات خارجية تطل عليه،بينما قدر لغرفتنا الوحيدة ألا تتطلع أبدا للعالم الخارجي،بنافذة  تشاركها الوحدة والانعزال،لا تطالع سوى الأفنية الخلفية للبيوت الأخرى،لذا فشجارات الصغار التي تتحول لمعارك بين الأسر،الأفراح الشعبية، وأصوات الشارع والمارة،المقيمين أو الدخلاء ، الفضائح والشائعات،تصلنا  متأخرا جدا كمن يقرأ الجرائد القديمة،أو بالتعبير الشعبي،كنا آخر من يعلم ."
بالتصدير السابق بدأت أولى صفحات مجموعتي القصصية الأولى المعنونة "بأقل قدر من الضجيج" ،كشهادة أدبية مكتوبة،عن قصص وحكايات استغرق مخاضها أكثر من عشرسنوات،تبعتها سنوات أخرى قبل أن اجد في نفسي  الشجاعة لنشرها، ربما لأنها لم تكن مجرد حكايات،بل حيوات وشخوص وذكريات، إسكندرية الثمانينات بشوارعها، وميادينها، ووجوه سكانها،وحياة جيل بأمانيه وأغانيه، جيل سمع عن ثورات قبله،عن أجيال سبقته بالتمرد والتحقق،بينما يقدرله الحياة في عهد ساكن تتشابه ساعاته بشهوره بأعوامه.
جيل يحيا تحت قانون يرهب ولا يحمي، يردد أغاني وطنية خالية من المعنى ،يستمع لتاريخ من سبقوه ،فيرى في أعينهم بريق الحياة لمن عاين وكاشف وعاش انهزامات وانتصارات فاكتسب حكمة وتفاؤلا لم يستطع توريثها لأبنائه.
أحداث كثيرة لم نعشها ،حرب اليمن /حرب 48/ ثورة 52/العدوان الثلاثي على مصر/النكسة/ أكتوبر.
تحكي لي جدتي عن خطاب التنحي الشهير لرئيس مصر وقتها "جمال عبد الناصر" ،تقول : خرج الجميع رافضين قراره متمسكين به ،القطارات إلى القاهرة كانت مجانية،ومن كثرة الزحام مات جارنا حين وقع أثناء ركوبه فدهسه القطار.
وتقص أمي أحداث وفاته ، "خرج الجميع ،سافروا من كل المحافظات إلى مصر، كنت طفلة وأردت المشاركة في الحدث،أحضرت أحد أثواب أمي السوداء،حولته إلى شرائط طويلة ممتدة، غلفت بأحدها صورة "جمال عبد الناصر"المعلقة في صالون البيت،وشبكت باقي الشرائط بحواف "البلكونة" لترفرف خارجا مع الهواء" طبعا حين عادت جدتي كان نصيب أمي منها علقة ساخنة بسبب ثوبها الممزق".
يروي لنا أبي قصصا لا تنضب عن مغامراته الشخصية أثناء "حرب أكتوبر"، عن الراديو الذي كان لا يفارقه،عن المعديات المصنوعة من المطاط التي فردت على شاطيء القناة ليعبر بسيارته فوقها في قلب الماء إلى الشاطئ الآخر، عن صديقه الذي انفجرت بجواره قنبلة ،فانغرزت حبيبات الرمال بقدمه ، أصابته بتنميل فظن ساقه قد بترت، ظل لأيام بعدها و كلما فرك جلد ساقه تتناثر منه الرمال.
ولأنني تشربت غواية الحكي، بذاكرة فوتغرافية لا تنسى مشهدا أو ذكرى،أردت قصة حقيقية أحكيها انا أيضا،أردت مغامرة أقصها على طلابي الصغار بالمدرسة، قصة تحمل معاني الأمل،التفاؤل،الانتصار.
التحقت بالجامعة وانا أضع في مخيلتي صورة رأيتها في الأفلام القديمة،تلك الحياة الغنية،والنقاشات الاجتماعية والسياسية، تخيلت انني سالتقي "فهمي عبد الجواد" الشاب الجامعي الثوري في "بين القصرين"أو " زينب" في الكرنك .
المظاهرة الوحيدة التي حدثت في حياتي الجامعية تمت وانتهت ،بينما كنت خارجا اتمشى مع صديقتي في "محطة الرمل".
ربما لذلك كانت البطولة في حكاياتي للأمكنة وشخصيات الحياة،للبيت والشارع وساعات السفر،للأشياء والفراغات الصغيرة المظلمة.
لكنها قصص حملت مشاعر ذلك الجيل،الذي ربما لم يعد يشعر بالأمان،جيل تحركه الانتصارات الشخصية،والتحقق البسيط على مستوى الحياة الخاصة،جيل رأى أعظم انتصارهو مبارة كرة قدم بين فريقين، وأكبر صراع هو تبادل الاتهامات مع دول عربية،كان يتغنى بوحدته معها في السابق.
بطلة "بأقل قدر من الضجيج"وهي القصة التي اخترت عنوانها ليكون عنوانا للمجموعة كلها،لم تكن سوى طفلة حالمة مدندنة، تتهاوى أحلامها البسيطة فجأة حين يطيح بها أحد الصغار المارين بشارع خال،تسقط الصغيرة على رأسها،تنزف جرحا داميا بالرأس، وآخر بالروح والقلب ،حينها تفقد تماما إحساسها بالأمان،رغم أن ما حدث لها كان عاديا ومكررا وبأقل قدر من الضجيج.
الطفلة التي كنتها،كانت تكبر بينما تناضل قدرها الأنثوي بعناد ربما ورثته من برجها الفلكي، وتحلم دائما بالانفلات إلى شوارع أرحب، وآفاق أكثر اتساعا.
الطفلة التي تعبت من الصراعات، سافرت إلى بلدة أخرى،وحين أوشكت على النسيان،على الاستسلام لحياة عادية خالية من الأحلام الكبرى، حين توقفت عن ترديد " الشارع لنا ..إحنا لوحدنا " ، حين اكتفت بمحاولات التحقق الذاتي على المستوى المهني والمادي،حين استبدلت اغاني "الشيخ إمام" بكليبات "إليسا وعمرو دياب"،حين تذكرت بأسى أصبح يغلف كتاباتها أهازيج فرقة " الحب والسلام " وهي تغني للوحدة بين الإسلام والمسيحية "صاحبي كان صاحب بجد ..كان بريء فوق أي حد ..مستحيل يبعدنا حد ..لو بأصلي الجمعة ..ولا صاحبي بيصلي حد" ، بينما تطالع أخبار وصور واحداث تفجيرات "كنيسة القديسين" ، بمدينتها البعيدة المسالمة. نفس المدينة التي عاينت حادثا آخر منذ ما يقرب من عام، وفاة الشاب السكندري"خالد سعيد" جراء عنف ووحشية رجال الشرطة معه.
أخبار منعتها من الابتهاج بصدور كتابها الذي انتظرته طويلا ، مجموعتها القصصية الأولى" خجلت من فرحتها بها وهي ترى أحد أحلامها الأثيرة يتحقق أخيرا،فتكتب في الإهداء " ألم أقل لكم ؟".  في استحياء تتصل بصاحب دار النشر،وبخجل تعلن عن كتابها على صفحات الفيس بوك، وعلى نفس الصفحات تتعرف أخبارانتحار "بوعزيزي"بتونس ، الأحداث الجديدة تجبرها على اللهاث، "بن علي" يرحل، صديقتها التونسية تتضطر لإلغاء سفرها إلى تونس خشية الاضطرابات الحادثة،ومن مصر تصلها الأخبار،معرض الكتاب يوم 26، جهزي نفسك لندوات وحفلات توقيع، تحجز بلهفة تذكرة السفرإلى مصر،لهفة لم تشعر بها منذ زمن،في الحقيقة إجازاتها الأخيرة إلى مصر كانت تفقد بهجتها منذ الأيام الأولى، حتى أنها كانت تقدم موعد العودة إلى "الكويت"، لا تتحمل البقاء في مصر أكثر،كل ما حولها،يصيبها بالخوف والغضب، الناس والأسعاروالمعاملة السيئة.
على الفيس بوك دعوة للتظاهر يوم الخامس والعشرين من يناير،تسخر منها بينها وبين نفسها في البداية ،لكنها وفي اعماقها،تشعر بالحزن والسخط ،لن تستطيع المشاركة،فموعد سفرها في التاسع والعشرين، لكنها تتابع الأخباربشغف،تقرا التعليقات، تتسوق من أجل حفلات التوقيع، تلتقي بعض الأصدقاء من الكتاب بالكويت،حضروا لمؤتمر مجلة العربي،تمنحهم اولى نسخ المجموعة،تعدهم ويعدونها،"سنلتقي في القاهرة ".
وتندلع الثورة ،الثلاثاء25 يناير،تلتصق عيونها بشاشة التلفاز،تطالع الفضائيات بلهفة وخوف وأسى،الآلاف يخرجون،في القاهرة والإسكندرية والسويس،القنابل والغازات والصرخات، تلمحه ابن بلدها،يواجه سيارة المطافيء التي تغرقهم بالمياه،فتتوقف امام بسالته،تصرخ في لهفة ،"جدع يا ولد ".
الأربعاء 26 يناير،استمرار الاشتباكات، العنف مرة أخرى،والصوت يعلو والأعداد تقل هنا وتزيد هناك، الخميس آخر ايام العمل، تتشاجر مع زميلتين ترددان عبارات الخنوع واليأس .
تسألها أخرى ؟ هل مازلت مصرة على السفر؟
في المساء ،تعد حقيبتها، تملؤها ثم تفرغها عدة مرات،التلفاز يعمل بأقصى طاقته،والحاسوب أيضا،أخبار وأغاني وطنية . تتنقل بين غرفة الجلوس وغرفة النوم،إعداد الحقيبة يستغرق طوال الليل ،في النهاية تعيد نصف الملابس والأغراض إلى مكانها بخزانة الملابس.
على الفيس بوك جروب جديد"كويتيون من أجل مصر"،تشترك فورا،تقرا تعليقات المشتركين بعينان تمتلآن دموعا،تكتب تعليقا ."أثبت هذا الجروب ان الشعوب العربية متحدة،ولها قلب واحد ينبض بنبض واحد، يبدو ان حكامنا هم من صنعوا الفرقة بيننا".
الساعة الواحدة صباحا بتوقيت الكويت،يخرج "الرئيس مبارك أخيرا "لإلقاء خطابه الأول بعد ثلاث أيام وليال دامية،يشرع في الحديث،ومع كل عبارة ينطقها،تعليق عليها في صفحة الجروب،الكويتيون أيضا ساهرون مثلنا،يتابعون بنفس اللهفة والترقب.
وفي الصباح ،تنقطع كل الاتصالات بمصر،الهواتف والانترنت،مصر أصبحت دولة معزولة في لحظات،هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس السؤال يتردد، هل ستسافرين؟
الفندق الذي حجزت فيه،يقع على بعد خطوات قليلة من ميدان التحرير الذي تراه على شاشات التفاز كساحة معركة حقيقية.
هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس الرجاء والتحذير،لا تسافري،معرض الكتاب تم إلغاؤه،لن يكون هناك كتاب، أو ندوات،أو حفلات توقيع .
تغلق الهاتف وقد ازدادت تصميما على السفر،كل ما تخشاه إغلاق المطار،أو إلغاء الرحلات الجوية إلى مصر،تحذير آخر"ربما تستطيعين الذهاب،لكنك قد تحتجزين هناك ،ربما يفوتك موعد العودة،فتخسري سنوات من العمل في البلدة الأخرى.
تتأكد من إعداد الحقيبة للمرة الأخيرة ، الأهم،جهاز الحاسوب المحمول،والكاميرا،يجب أن تسجل كل اللحظات صوتا وصورة.
في المطار تستخدم "الفيس بوك " للمرة الأخيرة قبل ركوب الطائرة،القلب لا يتوقف عن الخفقان ،الخوف واللهفة معا هما الشعوران المسيطران، تتفقد حقيبة يدها ، احضرت بعض النسخ القليلة من مجموعتها القصصية ، تفكر بينها وبين نفسها "لو نجحت الثورة سيتغير شكل الأدب والثقافة في مصر". تصل أخيرا،الطريق من المطار إلى فندقها في وسط البلد يبدو غريبا وغير قابل للتصديق،الدبابات بالشوارع ،والسيارات قليلة وسريعة " أتلك هي القاهرة التي تعرفها؟

تنهي إجراءاتها بالفندق سريعا،لا يشغل بالها سوى شيء واحد. "نزول الميدان" من نافذة غرفتها ،تطالع الميدان ،في مواجهة نافذتها تماما مبنى الحزب الوطني مازال يحترق، تحمل هاتفها المحمول ،والكاميرا،خطوات مرتبكة وخائفة حتى تصل، المشهد كان أكبر من الوصف بالنسبة لها ،وهي التي احترفت التصوير بالكلمات، الهتافات والنداءات، المسيرات بالمئات، تلمح صديقا تعرفه،تشير إليه،وفي دقائق تنضم إلى الحشد الأليف،شعور جديد بالأمان والدفء يتسلل إليها،تردد مع الكل بصوت مبحوح مرتجف في البداية "بلادي بلادي ..لك حبي وفؤادي"، صوتها يرتفع، وتشرق بملامحها ابتسامة هجرتها منذ زمن، أيام كثيرة ومتوالية قضتها في الميدان،كانت تلتقي مصادفة بكل معارفها من الأدباء والكتاب، لم تحزن لألغاء المعرض أو حفلات التوقيع،كان لضجيج الحرية وصخب الهتافات لحنا عذبا يتراقص على نغماته فؤادها .
قررت :" سيكون حفل التوقيع الأول بقلب الميدان "
وسيكون "بأكبر قدر من الضجيج"
جيهان عبد العزيز

تم نشر هذا المقال بجريدة أخبار الأدب الأربعاء 18 يناير 2011م

السبت، 12 فبراير 2011

من يوميات الغضب " الجزء الأول"

يوميات الغضب 
.............................   جيهان عبد العزيز
المكان : مصر . القاهرة . ميدان التحرير
الزمان : أيام الغضب
هدير طائرات الهليكوبتر الحربية ، و جنازير الدبابات في شوارع العاصمة المصرية ، وبعض المحافظات , أصبح هو المشهد اليومي المألوف ، ليس الأمر احتلالا عسكريا ، القوات والجنود والعسكر هم عسكر الجيش المصري، التجمعات والهتافات في الشوارع ، اخبار المظاهرات والسرقات و اللجان الشعبية ، تطغى على جميع اجهزة التلفاز في البيوت ، والمقاهي القليلة المفتوحة ، الشوارع الخالية ، أبواق السيارات التي لم تعد تدوي في سماء القاهرة ، مشهد جديد وغير مألوف ،المتاريس التي توضع في مداخل الشوارع السكنية ، حراسها ليسوا إلا سكان الشوارع نفسها ، مسلحين بالعصى والسنج والأسلحة البيضاء ، لا يسمحون بالعبور إلا  لمن يبرز هويته ، ويثبت انه من سكان الشارع ، او يذكر اسم من هو ذاهب إليه ، مدينة جديدة ساهرة ، بخفراء ليليين من السكان ، حملوا لقب"اللجان الشعبية" وكلفوا انفسهم بحماية شوارعهم وممتلكاتهم ، الحراس مصريون ، والسارقون ايضا مصريون ، المواطنون يعتلون الدبابات ، يعانقون افراد الجيش ويشدون على ايديهم ، و الهتافات تعلو بفرحة وامل كان لهما غياب طويل ، "الشعب والجيش إيد واحدة"
" يسقط يسقط تحيا مصر"
الترقب والقلق والجو المشحون كهدوء يسبق العاصفة، تشعر به بمجرد وصولك لمطار القاهرة الدولي الكائن بمدينة نصر، ومنذ اللحظة الأولى للخروج ، وبدلا من ان يتهافت عليك السائقون لتوصيلك ، تجدهم يشيحون بوجوههم بعيدا بمجرد ذكر وجهتك "وسط البلد . ميدان التحرير" .
أخيرا يقبل احدهم بتوصيلك بعد اشتراط مبلغ هائل من النقود ،تقبل دفعه صاغرا،وإلا اتخذت مكانك وسط عشرات السياح والعرب المرابطين في ساحة الانتظار بالمطار، في الطريق الشوارع الخالية صادمة لمن راى القاهرة قبلا ، السيارات قليلة ومسرعة ، الكل يخشى بدء حظر التجول ، " مش حنعرف نرجع" تلك هي العبارة المتكررة ، الدبابات هي المشهد المتكرر على طول الطريق ، كثافة أكبر وعدد جنود أكثر عددا في مدينة نصر حيث "بيت الريس" ، ما ان تدخل منطقة وسط البلد حتى ترى تلك التجمعات من الناس ، يسدون الطرق ، ويؤشرن للسائق كي ينحرف ويمشي من طريق آخر ، لكن المشهد يتكرر عند كل ناصية وشارع تؤدي إلى ميدان التحرير، تدرك اخيرا انك لن تصل اليه ابدا إلا راجلا، ممنوع دخول السيارات ، الوضع يتكرر منذ بدء حظر التجول ، والذي تعرف معناه أخيرا ، وهو بدء التجول على القدمين ، ربما تصيبك الدهشة ، فالشوارع الخالية قبل الحظر تمتلئ وتتزايد الجموع فيها بمجرد بدء الحظر ، الأعلام على الأكتاف وفي الأيدي ، الهتافات لا تنقطع ، من هنا وهناك ، اللافتات المصنعة من كل المواد التي تخطر على بال اولا تخطر ، علب الكارتون الفارغة ، علب الوجبات الجاهزة ، على القمصان ، على الجباه ، على الجدران والمحال والبنوك والحوائط وشركات السياحة المغلقة " الخل هو الحل" عبارة مكتوبة تحمل الوسيلة لمقاومة قنابل الغاز،هي الوسيلة التي تسربت لشباب المتظاهرين من أقرناهم في تونس ، أصدقاء الفيس بوك قبل قطع الانترنت نهائيا بأوامر الرئيس المصري. ليس الانترنت فقط  ، بل جميع شبكات الهواتف المحمولة ، ليصمت ضجيج رناتها نهائيا ، لكن ضجيجا آخر يولد  في الشوارع الجانبية ، متخذا مسارات تصب كلها في بؤرة واحدة " ميدان التحرير" ربما تتساءل كما تساءل "الرئيس" في الفيلم المصري" انتو وديتو الشعب فين" ثم تجد اجابتك حية متجسدة في الكتل البشرية الملتحمة بميدان التحرير"
ألوف من المصريين ، عشرات من الأجانب والمراسلين، يحملون كاميرات تسجل كرنفالا أو احتفالا جمهوريا ، لم تشهده القاهرة منذ عقود ، الأصوات والصور الحية كانت ابلغ تعبير عن "ثورة شعبية"، الميدان ممتلئ عن آخره ، تحيطه الدبابات من كل جانب، لكن الجنود لا يمنعون أحد من المرور ، من الدخول للميدان ، من اعتلاء الدبابات نفسها ، من الكتابة عليها من جميع الجهات شعارات الانتفاضة "يسقط مبارك " ، " الشعب يريد إسقاط النظام"
ملامح الميدان الشهيرة ومعالمه تتضاءل وتكاد تتوارى أمام الطوفان البشري المرابض ، رائحة الدخان خانقة وتزكم الأنوف ، ومشهد النيران المندلعة  من مبنى "الحزب الوطني"  تذكر بمشهد " حرائق برجي التجارة العالميين" منذ سنوات قليلة ، المتحف المصري مهجور ، والحكايات تتردد عن محاولات سرقته التي احبطها أفراد اللجان الشعبية أنفسهم من المواطنين والمتظاهرين ، الجناة "أفراد الشرطة " بعد ان خلعوا زيهم الرسمي ، الحراس الجدد من الشعب يلقون القبض على السارقين ، يقومون بتسليمهم لقوات الجيش ، حكايات أخرى عن السرقات للمجمعات والمولات الكبيرة وكبائن النقود ، بعد خلو الشوارع من رجال الشرطة ، أقسام بوليس كثيرة تمت مهاجمتها وإحراقها ، والاعتداء على من فيها من قبل بعض الأفراد الذين تم التنكيل بهم من قبل في نفس تلك النقاط ومن نفس هؤلاء الضباط وأمناء الشرطة ، كانت لحظات للانتقام حانت لكل صاحب ثأر قديم ، في وسط الميدان سيارة شرطة محترقة تماما وقد حولها المعتصمون لحاوية ضخمة للقمامة ، حكايات أخرى عما اسموه بحرب الشوارع بين المتظاهرين وقوات الأمن في "جمعة الغضب" ، عن القنابل المسيلة للدموع ، عن النساء اللاتي كن يلقين بزجاجات الخل والكولا للمتظاهرين ،أو طريقتهن المبتكرة في احتواء القنابل نفسها في كتل من عجين الماء والدقيق، وطوفان البشر مازال مستمرا ، مئات اللافتات بشعارات مختلفة ، بعضها اوراق عادية ، وخطوط يد رديئة ، الأخرى لافتات ضخمة مطبوعة الكترونيا، صور الرئيس تحمل ملامح فنانين شعبيين تفننوا في إضافة خطوط أخرى كآذان طويلة ، أو رسم حمار ، أو مجرد الشخبطة على الوجه ، أو حمل الصورة مقلوبة رأسا على عقب " انتهى الدرس يا غبي " " game over"  
" طلاب طب أسيوط يشاركون " " أهل السويس " ، "دستور جديد " " ليه التعتيم "
الوجوه مختلفة في القسمات والملامح ، في الأعمار والمستويات الاجتماعية ، متحدة في الثورة والمسيرات ، في التجاور ،جماعات جماعات بعضها يفترش الحديقة الدائرية في قلب الميدان ، الآخرون يفترشون الأرض والأرصفة ، رجال قرويون كبار السن بلباسهم التقليدي ، فتيات وفتيان جامعيين بالتشيرتات والجينز ، بعض أطفال الشوارع ، ربات بيوت ، رجال ونساء وأطفال ، عائلات كاملة من كل محافظات مصر، كتاب وصحفيون وفنانون وأناس عاديون، يتزعمون الهتافات ، او يقومون بتنظيم اللجان الشعبية ، وتوزيع المهام على المعتصمين ، في هذه البقعة "خالد صالح " يعتلي السور الحديدي يهتف والجماهير وراءه ، بجواره "خالد ابو النجا " يحمل كاميراته يشارك بالهتاف وتحية المتظاهرين ، على الجانب الآخر "جميلة اسماعيل" تعتلي احدى الدبابات ومعها وحولها مجموعة كبيرة من الناس، امام الجامعة الأمريكية ، تجمع ثالث ، القائد طفل صغير لم يتجاوز الاعوام الخمسة يهتف بصوته الطفولي ويندفع الهتاف من الحناجر خلفه " ارحل ارحل مش عايزينك" ، عند بداية الميدان صوب الكوبري الممتلئ عن آخره باعداد أخرى ، تجمع حول "البرادعي " ، فجاة تمتزج الأصوات وتتداخل في لحظات تخرج مبحوحة محشرجة ، والقلوب نابضة بالعزم ، وبمشاعر متداخلة ، وبحرارة تمتليء بها الجموع المتدفئة ببعضها من برودة يناير ، فلا تميز الهتافات المختلفة ، لا تستطع فك شفرات حروفها وألفاظها ، لا موطىء لقدم بالميدان ، ولا مساحة للرؤية سوى للوجوه والأجساد المتلاحمة ، الهواتف المحمولة رغم اعادة تشغيلها ، ينكتم صوت رنينها تماما امام سطوة الحناجر ، المشهد اشبه بيوم الحشر ، تمسك بيد رفيقك ، لا تجعله يغب عن عينيك لحظة ، وإلا استحال الوصول إليه مرة اخرى،لا تعط موعدا لأحد ، ولا تغضب ان لم يف احد بوعده لك ، فالانتقال من رصيف إلى الرصيف المقابل وقت التظاهر قد يستغرق  ربع ساعة كاملة ، دع الطوفان يحملك ، وقد تلتقي بمن تريد وحدك ، لا تحمل هم الجوع او العطش ، فسرعان ما ستجد من يمنحك جرعة من المياه ، او ساندوتش فول وفلافل ، وربما تكون سعيد الحظ فتحصل على علبة كشري ، وزجاجة مياه غازية ، هناك الحلوى ايضا ، البسبوسة والمقرمشات ، كلها توزع مجانا ، من كل صوب واتجاه ، المعتصمون ، أقاربهم ، مصريون ومصريات أرادوا المشاركة بما يستطيعون فعله ، قبل الذهاب لمنازلهم واحيائهم السكنية كي يقوموا بالحماية، الأيام تمر والمشهد لا يتغير ،التعب ينال منك ، فلتسترح قليلا ، انظر حولك ، واختر اقرب مكان متاح للجلوس ، على الأرض على الرصيف ، على السور الحديدي ، ربما تفضل مكانا شاغرا على احدى الدبابات ، اختر اي مجموعة واجلس معهم دون تعارف سابق ، لن يبعدك احد ، ستتبادلون سلاما بالعيون أولا ، ثم بابتسامة على الشفاه المكدودة ، سيقدم لك احدهم سيجارة لتدخنها ، ستستمع لغناء قريب ، فتتوجه إليه ويعلو صوتك مع الكورس الجماعي لترديد اغاني الشيخ إمام " مصر يا اما يا بهية .. يا ام طرحة وجلابية " أو تشارك مجموعة اخرى كلمات سيد درويش " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك " ، تتوقف الأصوات كلها فجاة ويلتزم الجميع بالصمت ، يتراص المئات لأداء الصلاة وكأنهم في ساحة الحرم ، لا يشوش على صوت المصلين سوى هدير الدبابات المحمومة حول الميدان ، تنفض الصلاة ليعود الكرنفال من جديد .
فجاة يدوي هدير اكثر عنفا يكاد يصيب الآذان بالصمم ، والرجفة تنتقل من القلوب للأبدان كلها، طائرات حربية أخرى " بوينج" تنطلق كالرصاصة فوق رؤس المعتصمين ، الهتافات تختنق داخل الحناجر ، ثوان تتوقف فيها الأنفاس والعيون تتطلع للسماء بدهشة وخوف ، ثم تتعالى الهتافات من جديد ، هتافات ساخرة في تلك اللحظة ،وغير مبالية ، ومصرة على اكمال المسيرة بلا خوف أو ترهيب
" مش حنمشي .. هو يمشي "
خبر جديد " الثلاثاء مسيرة مليونية "
اليسار واليمين قلب واحد وصوت واحد ، ساعات تمر بلا كلل ولا ملل ، وفي كل لحظة مشهد جديد وطريقة مبتكرة للتعبير، مجموعة ترتدي أردية بيضاء كالكفن ، والشعار" هذا كفني من أجل مصر" ، مجموعة أخرى يرفعون شعار "الإضراب عن الطعام" شخص يعتلي عمودا كبيرا للإنارة ، ثم يقرر "لن أرحل حتى يرحل " . وجوه تتبدل وتتكرر، أعداد تقل في المساء ثم تزيد مرة أخرى ، في الليل ، مئات يفترشون الحدائق والأرصفة ، المبيت في الميدان هو القرار ، حلقات حلقات وفي الوسط يشعلون النيران للتدفئة ، دخان يتصاعد ، وشباب اللجان الشعبية يحملون المقشات يكنسون الميدان الكبير ، وبعضهم يحاول نزح المياه المتراكمة في بركة كبيرة جراء قذف المتظاهرين بالماء، الأطعمة مازالت توزع من الجميع وإلى الجميع ، إشاعات تنتشر، والحقيقة غائمة ،البعض يذهب للمقاهي القريبة محاولا تعرف الأخبار الجديدة ، مجموعات من الأطباء الشباب يتطوعون لعلاج المرضى والمصابين في قلب الميدان، لافتات توضح أماكن الخدمات المختلفة ، "الإسعافات الطبية خلف مطعم ........." ،، واخيرا صباح جديد ، الميدان يتزاحم ، ويتحول المكان إلى ما يشبه المولد الشعبي ، أصوات ميكروفونات تتعالى ، شاشات عملاقة يتم تركيبها في الميدان ، يذاع عليها اشعار شعبية وطنية ، على خلفيات من صور لمصر ومظاهر المعاناة فيها ، أجهزة تلفاز يتم تركيبها ، ليتم من خلالها بث القنوات الإخبارية التي تم منعها ، وموائد تفرش على الأرصفة ، إذا كانت المحال مغلقة ، فستفتح في قلب الميدان ، الاصناف قليلة لكنها كافية ، علب من الجبن الأبيض ، وبعض ارغفة الخبز ، نصبة شاي بالتعبير المصري، موائد عليها "حلوى العسلية " ، تكاد تشعر انك بعد قليل ستجد الحاوي ، او من ينادي عليك "افتح عينك تاكل ملبن " ، ليلة الثلاثاء كانت بحق "الليلة الكبيرة" كما وصفها "صلاح جاهين" استعدادا للمسيرة المليونية في الصباح القريب ، قرب الميدان مشهد جديد ، المقاهي كلها مفتوحة حتى الصباح ،العيون متوجهة نحو شاشات التلفاز ، المعتصمون يحاولون التغلب على برودة الليل بالحركة ،دقائق يقضونها على المقهى ثم يعودون منتظرين الفجر الجديد ، واخيرا ياتي ، المشهد يفوق كل وصف ، الأعداد في الميدان نفسه فاقت المليون ، ومازالت الآلاف تتوافد من كل صوب، الهواتف المحمولة تدق ، اخبار الإسكندرية ، هناك مليونين أو أكثر في الشارع ، ومازالت السيادة مستمرة ، حول الميدان كثافة اكثر للتفتيش ، لن تمر بدون إظهار بطاقتك ، وتفتيشك تفتيشا ذاتيا ، سواء كنت رجلا أو امراءة ، فالإشاعات المنتشرة بمحاولة الدسائس الدخول في قلب التظاهرة ، ومحاولة إحداث العنف والشغب كانت أقوى مما يكون ، الفئات كلها موجودة، الطبول تدق ، الهتافات تتعالى ، وحول الميدان انتشر سوق جديد ، " علم مصر " بخمسة جنيهات، مشهد جديد في الشارع المصري، وفي لحظات يرفرف علم مصر في كل يد ،في شارع شامبليون حيث يقع "حزب التجمع" تتكدس الشرفات بأناس آخرين ، يلوحون أيضا بالأعلام ، بينما يعلو صوت عبد الحليم حافظ بالأغاني الوطنية ، وخبر جديد " خطاب للرئيس مبارك " بعد قليل ، لكن القليل يتحول لساعات طويلة من الانتظار
وللحديث بقية  .
جيهان عبد العزيز

الخميس، 20 يناير 2011

العازف

العازف


قالت له جدته بنبراتها الأشبه بفحيح أفعى " ستسحرك الجنية العاشقة ، تمسُك بأطراف أناملها الناعمة الطويلة ، فتخلب لبك ، وتأسر عقلك ولسانك ، ستهيم على وجهك في الظلمة ، تتغنى بجمالها ، وبريق عينيها الذي يتألق كآلاف الشموس الغاربة " .
لم يفهم كلام جدته وإن كان يرتجف قلبه الصغير لنبراتها ، يخيل إليه للحظات أنها لم تفتح فمها المطبق أبدا ، يحار من أن أين خرج صوتها ، لكنه لا يشغل عقله الصغير طويلا ، محاولا مغافلة كل الأسوار التي تنبتها حوله ، كي يندفع خارجا للعب مع أصدقائه ، يعشق الجري بين الحقول ، يعبر معهم بنزق طفولي كل البرك الصغيرة ، بل ومرات يندفع للسباحة في ترعة القرية الممتدة كشريان رئيسي بين الحقول ، غير آبهين بتحذيرات الكبار ، حتى حين غرق فيها رفيقه ، ظلوا أياما يقفون لدقائق متأملين القاع الموحل ، أو قاذفين الأسماك بما يجمعون من أحجار ، يتسابقون فيمن يرميها لأبعد مسافة ، يمنحون لقب الفوز لمن تتضاعف دوائره في الماء حول الحجر الغارق ، كان ملولا بطبعه ، يبحث دائما عن الجديد والغريب ، يعشق التحدي غير آبه بأي تحذير ، يوم أن مات جده ، تسلل مع أصدقائه إلى المقابر ، بعد أن رحل المشيعون ، أراد أن يراه ، يسأله عن الكنز المخبأ تحت نخلتهم العتيقة ، عن الجنية التي عشقته ، فمنحته كنوزا لم تمنحها لأحد قبله ، لكنه لم يكتم السر ، فسلبته عقله وقلبه ، وتألقت كآلاف الشموس الغاربة ، وحين خفت التألق لم ير نورا بعدها ، يتذكر جيدا لون عيني جده المختلط بياضهما بزرقة شاحبة ، عصاه التي يتوكأ عليها ، وترشده للطريق في ظلامه الأبدي ، تتسلل إليه في المساء نغمات نايه الحزين كأنما ينادي غائبا عنه ، الجد المفتون بالجنية الراحلة رفض استخراج الكنز ، ربما ترضى عنه في ليلة ما، فتعود إليه من جديد ، ينتظرها عند كل اكتمال للقمر ، ليال ثلاث ينتظرها وحده ، فوق سطح القش والخيزران ، لكنها لم تأت أبدا ، والجدة العجوز التي هجر فراشها منذ زمن لقائه الأول بجنيته المخادعة ، كانت تلعنه في جوفها البارد ، تلعن جنيته المراوغة ، تتحسر على أيامها الماضية معه ، لكنها  حين خرج حفيدها الأول من رحم أمه على يديها  ، اختلج قلبها الواهن كما لم يرتجف من زمن ، وهي ترى فيه وجه جده القديم ، نفس الملاحة ، العينان العسليتان ، والشعر الفاحم  بغرة نافرة دائمة ، وشامة سوداء تخايل حاجبه الأيسر ، تضاعف عمر الجدة في تلك الليلة ، انتزعته من حضن أمه ، أعلنتها صارمة ، أنها ستربيه بنفسها ، ستنصب حوله الأسوار والحصون كي تمنع عنه اللعنة الممتدة ، حذرته بكلماتها ، بنبوءتها الداكنة ، كل ذلك لم يفلح معه ، وحين عاد من المقابر في تلك الليلة حاملا ناي جده بين يديه ، أقسمت على أبيه ألا يبقيه في القرية بعد اليوم ، يتذكر جيدا الحقول الراكضة بأقصى سرعة بجوار القطار الهارب، رفاقه الذين ركضوا لمسافة جوار المارد الأسود ، يلوحون له مودعين ، خيل إليه أن رفيقه الغارق يلوح له أيضا من بعيد ، بوجه شاحب وقطرات ماء تتساقط من شعره وملابسه ، في المدينة كان الصخب المفاجئ والوجوه الغريبة ، ذكرته المحطة بليالي المولد في قريته ، ذلك الطوفان البشري ، اللهجة الغريبة على أذنيه ، سنوات قضاها بعيدا عن قريته تلون لسانه بلسان أهلها ، ارتدى ملابسهم ، اعتاد ملمس الحذاء القاسي في قدميه ، بينما  تخايله رائحة العشب المندى ، وملمس الحصى والتراب تحت قدميه العاريتين دائما ، وشيش النخلة العالية في ليالي الشتاء البعيدة ، الدوائر التي يصنعها الحجر الغارق في مياه بحر المدينة ، تحمله لمياه ترعته القديمة ، فيلمح وجه كل الرفاق ، لم تسمح له جدته بالعودة للقرية أبدا ، حتى حين لحقت بجده بعد سنوات قليلة ، عاد والده وحده ليودعها مثواها الأخير ، أصوات أبواق السفن الآتية والمغادرة من الميناء القريب ، صنعت له لحنا جديدا مغايرا لنغمات الناي القديم ، أوصاه أباه في لحظاته الأخيرة ، أعدني إلى تراب قريتي ، عشر سنوات كاملة مرت قبل أن يعود من جديد ، بشعور متناقض ما بين اللهفة على العودة والخوف الكامن من المجهول ، أتته جدته في تلك الليلة كان نائما تحت النخلة القاحلة ، لمح رداءها الأسود من بعيد ، أعادت كلماتها بلا صوت ، نبوءتها الداكنة ، أمرته بالرحيل ، تناولت الناي من يديه وكسرته تطايرت شظاياه في كل صوب ، وشظية مسعورة تتجه نحو عينه ، انتفض مذعورا ، لمح رداء أبيض يطير ويختفي بين الأشجار البعيدة ، وجد نفسه يطارده ، وصوت موسيقى الناي القديم يصدح كأنما يعزفه كل الشجر ، كانت هناك بانتظاره ، بجوار الساقية القديمة ، تجلس على حافة الترعة ، تغمر ساقين كاللؤلؤ بالمياه ، اقترب منه ، كلمته بلا صوت ، منحته آلة خشبية صغيرة "هارمونيكا" ، أمرته بالعزف ، أراد القول أنه لا يجيد العزف عليها ، نظرتها الآسرة المتألقة كآلاف الشموس ، لم يجد أمامها سبيلا للرفض ، مس الفتحات المتجاورة بشفتيه ، نفخته كانت تنهيدة عشق ، انبعثت على أثرها ألحانا عذبة لم يسمع مثلها من قبل ، شعر أن العالم كله يتبدل من حوله ، ليست الأشجار هي الأشجار ، ولا النهر ولا الأرض ولا السحاب ، أمسكت بيديه ، سحبته معها ، حلقت به فوق كل المعاني والأشياء ، حين عادا أخيرا ، حذرته من البوح ،  وعدته باللقاء كلما كان البدر ساطعا ، مرت ليلة ، وبقى لديه اثنتان فقط ، شروده الدائم ، وامتناعه عن الطعام والشراب أرجعوه لحزنه الشديد على الوالد الراحل ، لم يفهم أحد سر رحلاته الليلة الغريبة بين الحقول ، إصراره على العودة للقرية كل شهر في الليالي القمرية ، كاد يخسر عمله ، ترك خطيبته التي عشقها لسنوات مضت ، شروده الدائم زرع القلق والحزن في قلب أمه ، ألحت على السفر معه في تلك المرة ، خرجت وراءه في المساء ترقبه ، لم تستطع إكمال الرحلة خلفه ، حين عاد فجرا ، أقسمت عليه بكل الأرواح لماضية ، بمرضها واحتياجها له ، أن يخبرها بسره المقيم ، أن يعود إلى المدينة ، استعانت بكل الأهل والمعارف ، أقاموا حوله المتاريس والموانع ، غلقوا الأبواب ، لم يستطع الذهاب إليها في الليلة الثانية ، حاول الفرار ، أطلق صرخات وحشية ، عوى كالذئاب ، سقط محموما شاردا يهذي ، وأخيرا نطق باسمها ، في الليلة التالية ، هرع لتلبية موعدهما الأزلي ، كلما اقترب منها كانت تهيم بعيدا عنه كطيف سابح ، سار وسار حتى تآكلت في قدميه الأرض ،  لمح آلتها السحرية على الأرض ، قربها لشفتيه ، وعزف لها كل ألحان العشق والحنين والرجاء ، التفتت إليه أخيرا ، تألقت عيناها كآلاف الشموس الغاربة للحظات ، ربما لساعات أو دهور ، في الصباح وجدوه مغشيا عليه ، حين فتح عينيه ، انتفض قلب أمه انتفاضته الأخيرة وهي تلمح نظرته الصماء ، بحدقتين اختلط بياضهما بأزرق شاحب في لون الموت .

* * * * * *

أطالع عقارب الساعة في قلق وغضب ، بينما السيارة تتوقف للمرة الثانية في نفس الإشارة الضوئية ، تلك الإشارة الضوئية اللعينة ، لا تكاد تفصح عن خضرتها حتى تشهر وجهها الأحمر الصارم من جديد ، والعقارب في سباق محموم ، سأتأخر عن عملي بسبب تلك الإشارة ، أبواق السيارات المعترضة تنطلق في عنف واعتراض ، أضغط بيدي على المقود مطلقة العنان لأبواقي الغاضبة ، أنزعها أخيرا حين يتألق الأصفر، أستعد للانطلاق، هاهو الأخضر أخيرا، أنطلق محاذرة اندفاع السيارات الأخرى، وعيني على الأحمر بقلق ورجاء ، سيارتان فقط أمامي وأعبر أخيرا ، ثوان وأصل لبر الأمان و .. أضغط المكابح في عنف فيرتج جسدي ، وأكاد أصطدم بالزجاج الأمامي لولا حزام الأمان ، الأحمر القاتم من جديد، بينما تتعالى الأبواق الغاضبة من خلفي ، اللعنة ، أترك المقود باستسلام ، لن أصل أبدا في الموعد ، أفتح النوافذ على مصراعيها عل لفحات الهواء تبرد من نيران غضبي قليلا ، تتسلل لي تلك النغمات العذبة فجأة ، أدير رأسي بحثا عن مصدرها ، ليست من مذياع إحدى السيارات ، النغمات مازالت تعلو بلحن آسر جميل ، ينسيني غضب المدير ، والإشارة المعاندة ، حين ألمحه أخيرا ، رجل بجلباب طويل ، ونظارة سوداء على عينيه تعلن عن ظلمته الدائمة ، بيده اليمنى عصاه المرشدة ، وباليسرى يرفع آلة خشبية إلى شفتيه ، تنبت زهور النغمات والألحان، براعته الشديدة في العزف جعلتني أتمنى ألا تفتح الإشارة أبدا، تعجبت كيف تستطيع آلة صغيرة إخراج كل ذلك الزخم الموسيقي، كان بارعا حقا، يعرف لحنا عربيا قديما لموسيقار الأجيال، أبدله فجأة لأغنية مرحة من أغاني العندليب الأسمر ، وجدتني أردد الكلمات ، أغني مع اللحن ، لست وحدي من فعل ذلك، كل قائدي السيارات والراكبين والراجلين ، كانوا يرددون الأغنية ككورال جماعي موحد ، قبل أن تكتمل ، أعلن الضوء الأخضر عن حتمية السير ، لحظات من التردد راودت الجميع ، قبل أن يعاودوا السباق من جديد ، في الأيام التالية لم يعد يشغلني كثيرا التطلع إلى عقارب الساعة ، أو مراقبة الإشارة المتبدلة في جنون، احترفت البحث عن العازف الغريب ، استدعاء ألحانه ونغماته الساحرة ، يبدل بينها في إتقان وبراعة ، اقترب مني كثيرا في تلك المرة ، استطعت تبين وسامة رجولية تسكن ملامحه لم تخفيها نظارته السوداء ، أو تبدل منها تلك الشعيرات البيضاء على فوديه ، تسمرت عيناي على تلك الشامة السوداء فوق حاجبه الأيسر، تذكرت صورة عائلية قديمة تقبع في دفتر قديم ، وحكايا عمتي عن الجد والأخ المسحور ، عن القرية القديمة ، والنبوءة الداكنة، والجنية العابثة، انساب منه في تلك اللحظة لحنا رومانسيا عذبا، يحمل نداء آسرا لحبيب بعيد مجهول ، بدلت الإشارة الضوئية ألوانها في سرعة وجنون عدة مرات، لم تحرك أي من السيارات المتزاحمة إطارا واحدا ، حتى أبواق السيارات الأخرى ، كانت تأتي كسيمفونية بعيدة ، كصدى خافت ، لم يستطع حجب نداء العازف أو فك تعويذته السحرية بينما أقسم الجميع، أن العازف اختفى بعيدا ، مع تلك الفاتنة بردائها الأبيض المرفرف في نعومة، تاركا نظارة سوداء قديمة،  بينما ظل لحنه معلقا في الهواء ، وأن هذا اللحن يعلو صوته أحيانا كلما مر عاشقان ، عند  اكتمال القمر  .

الجمعة، 31 ديسمبر 2010

أحلام على وجه العام الجديد

أحلام على وجه العام الجديد "

" قد إيش كان في ناس ......... عالمفرق تنطر ناس وتشتي الدني ويحملوا شمسية وأنا بأيام الصحو ماحدا نطرني " ها نحن في ديسمبر ، ينبعث الصوت الفيروزي من المذياع ناشرا دفئا محببا رغم زخات المطر ، ربما لأن شتاء الإسكندرية ليس كأي شتاء آخر ، دفء منبعث من نسمات الأبيض المتوسط ، أو
ربما من أنفاس البشر المنتشرين ، أضواء المحال ، والملابس الشتوية الأنيقة المعروضة ، مرآها وحده كان ينشر في نفسي وروحي الدفء ، وكأن شوارع الإسكندرية بطانية كبيرة تحتويني ، بطانية مزدانة باللون الأحمر ، زينة أعياد الكريسماس التي اقتربت ، وجوه باسمة لبابا نويل تطل من جميع الواجهات بذقنه القطنية البيضاء الدافئة وطرطوره الأحمر المبتهج ، وبسمته الحنون التي تعد بتحقيق كل الأحلام ، تنتصب وراءه شجرة الكريسماس المتلألئة بعشرات النجوم الفضية والكرات الذهبية والحمامات البيضاء . للهواء رائحة منعشة ، لقطرات المطر التي انزلقت من السماء منذ قليل ، أو تلك المختبئة بين الغيوم تنتظر اللحظة المناسبة ، و في الميدان الكبير المتسع "لمحطة الرمل" ، حيث تتغلغل رائحة الفيشار الطازج في الأنوف ، يغدو كارنفال حقيقيا للوجوه والملابس والمحال ، المارون كثيرون ، شباب يتمهلون أمام أبواب السينمات المتجاورة ، ينقلون أبصارهم بين الأفيشات الضخمة ، يتناقشون معا ، ينتقون أخيرا ثم يتوجهون إلى شباك التذاكر لحجز أماكنهم ، أسر تتجول بين المحال المختلفة ، فتيات يتنقلن كنحلات نشيطات بين تلك الموائد المفروشة على امتداد الشارع بالإكسسوارات وأدوات التجميل ، والكتب والمجلات ، والبوسترات الملونة للفنانين والفنانات وتقاويم العام الجديد . أتمهل مع صديقات الجامعة أمام تلك الرزم الصغيرة ، روزنامات صغيرة بحجم أوراق اللعب ، يحمل وجهها الأول صورة ، والوجه الآخر كل أيام وساعات ولحظات العام الجديد ، أقلب التقاويم والصور ، و أرقب بطرف خفي ما يختاره الآخرون ، كل صورة كانت تحمل معنى وإحساسا ، وذكريات ، و آمالا مؤجلة ، آمال تتضرع إلى العام الجديد أن يكون هو عامها المنشود ، عام تحقق الأحلام . أسهم تخترق قلوبا حمراء ، أياد متشابكة لعشاق صغار ، زهور ونباتات ، فراشات ، صور للفنانين :عرب وأجانب ، نماذج مصغرة للوحات شهيرة ، ألمح صديقتي تختار وجها لطفل صغير ينبع من عينيه نهران من الدموع ، أتعجب لاختيارها، وسرعان ما أتذكر السبب في الحزن النائم في عينيها ، حين تخرج تقويم العام الماضي ، كان هو من أهداها ذلك التقويم ، اشترياه سويا من نفس البائع ، صورة لطفلين صغيرين مشبوكي الأيدي والنظرات ، على ساعد الفتاة الصغيرة وشم لقلب كتبت فيه كلمة ( love) ، و أسفل الصورة كلمات باللغة الإنجليزية " معك أشعر بالأمان .......... لأنني أثق بك " انقبضت أصابعها فوق التقويم القديم تعتصره ، طوحت به بعيدا لتدهسه أقدام المارة ، وكأنها بذلك تطوي عاما كاملا من حياتها ، لكنني لمحتها تبحث بعينيها في التقويم الجديد عن تاريخ ميلاده ، وهي تستعيد كل الذكريات ، أحاول الانشغال عنها بالبحث في الصور عما سأختاره هذا العام لنفسي ، تنفلت مني ابتسامة وأنا ألمح تلك المراهقة الصغيرة تشتري كل الصور التي يطل منها المطرب الشاب الجديد بأوضاع مختلفة ، أختار بعض التقاويم التي تحمل صورا لأطفال ولمناظر طبيعية ، أبتعد أنا وصديقاتي وكل منا تمسح بعينيها تواريخ العام الجديد ، يحمل لها كل تاريخ حلما تتمناه ، هنا سيكون الاحتفال بعيد ميلادي ، وفي هذا التاريخ ستبدأ الامتحانات ، أما في ذلك التاريخ سأكون قد حصلت على شهادتي الجامعية ، حلم التخرج الذي روادني سنينا ، سيتحقق أخيرا ذلك العام ، تاركا الفرصة لأحلام جديدة كي تنبت ، وتشغل العقل والقلب والروح . خالي يحلم أن يكون العام الجديد هو عام زواجه من خطيبته الجميلة ، و صديقتي الأخرى تنتظر التخرج ليتقدم حبيبها بطلب الزواج ، جدتي تتمسك بالحياة من أجل أمل بعودة ابنها المسافر واستقراره بجانبها ، وأبي يتمنى أن يحقق له التقاعد راحة وهدوءا يحلم بهما منذ سنين ، أخي الصغير يأمل بدراجة تهدى إليه في ذلك العيد ، وجارتنا العروس تهفو إلى مولود جميل تستقر صورته الصغيرة بجانب صورة زفافها الملونة . كانت تلك هي أمنياتنا المشروعة ، بسيطة ومتواضعة ، كتلك الكلمات التي كنا نتغنى بها : " بأحلم على قدي بشراع يعديني بشموع تدفيني بعيون تصون ودي"