ألم أقل لكم ؟

ورجعت أكتب تاني



اكتب اللي في نفسي بجد المرة دي



ولقيتني فتحت على نفسي وعليكم أبواب كتير



يمكن ما تعرفوش تقفلوها


السبت، 19 فبراير 2011

ألم أقل لكم ؟

"رغم عشقي المؤلم للحواديت،واستئثاري بالقدرة على الحكي بين رفاق الطفولة والصبا،رغم خروجي الدائم خارج حدود الجدران الأربع  بالخيال غالبا،كنت دائما طرفا غائبا عن المشاهدة العيانية لمغامرات الشارع وأحداثه،شارعنا الذي يضيق قرب بيتنا ثم يترك لنفسه كل البراح بعيدا عنه،تصلني أخباره وأحداثه من أفواه الجارات اللاتي يمتلكن شرفات خارجية تطل عليه،بينما قدر لغرفتنا الوحيدة ألا تتطلع أبدا للعالم الخارجي،بنافذة  تشاركها الوحدة والانعزال،لا تطالع سوى الأفنية الخلفية للبيوت الأخرى،لذا فشجارات الصغار التي تتحول لمعارك بين الأسر،الأفراح الشعبية، وأصوات الشارع والمارة،المقيمين أو الدخلاء ، الفضائح والشائعات،تصلنا  متأخرا جدا كمن يقرأ الجرائد القديمة،أو بالتعبير الشعبي،كنا آخر من يعلم ."
بالتصدير السابق بدأت أولى صفحات مجموعتي القصصية الأولى المعنونة "بأقل قدر من الضجيج" ،كشهادة أدبية مكتوبة،عن قصص وحكايات استغرق مخاضها أكثر من عشرسنوات،تبعتها سنوات أخرى قبل أن اجد في نفسي  الشجاعة لنشرها، ربما لأنها لم تكن مجرد حكايات،بل حيوات وشخوص وذكريات، إسكندرية الثمانينات بشوارعها، وميادينها، ووجوه سكانها،وحياة جيل بأمانيه وأغانيه، جيل سمع عن ثورات قبله،عن أجيال سبقته بالتمرد والتحقق،بينما يقدرله الحياة في عهد ساكن تتشابه ساعاته بشهوره بأعوامه.
جيل يحيا تحت قانون يرهب ولا يحمي، يردد أغاني وطنية خالية من المعنى ،يستمع لتاريخ من سبقوه ،فيرى في أعينهم بريق الحياة لمن عاين وكاشف وعاش انهزامات وانتصارات فاكتسب حكمة وتفاؤلا لم يستطع توريثها لأبنائه.
أحداث كثيرة لم نعشها ،حرب اليمن /حرب 48/ ثورة 52/العدوان الثلاثي على مصر/النكسة/ أكتوبر.
تحكي لي جدتي عن خطاب التنحي الشهير لرئيس مصر وقتها "جمال عبد الناصر" ،تقول : خرج الجميع رافضين قراره متمسكين به ،القطارات إلى القاهرة كانت مجانية،ومن كثرة الزحام مات جارنا حين وقع أثناء ركوبه فدهسه القطار.
وتقص أمي أحداث وفاته ، "خرج الجميع ،سافروا من كل المحافظات إلى مصر، كنت طفلة وأردت المشاركة في الحدث،أحضرت أحد أثواب أمي السوداء،حولته إلى شرائط طويلة ممتدة، غلفت بأحدها صورة "جمال عبد الناصر"المعلقة في صالون البيت،وشبكت باقي الشرائط بحواف "البلكونة" لترفرف خارجا مع الهواء" طبعا حين عادت جدتي كان نصيب أمي منها علقة ساخنة بسبب ثوبها الممزق".
يروي لنا أبي قصصا لا تنضب عن مغامراته الشخصية أثناء "حرب أكتوبر"، عن الراديو الذي كان لا يفارقه،عن المعديات المصنوعة من المطاط التي فردت على شاطيء القناة ليعبر بسيارته فوقها في قلب الماء إلى الشاطئ الآخر، عن صديقه الذي انفجرت بجواره قنبلة ،فانغرزت حبيبات الرمال بقدمه ، أصابته بتنميل فظن ساقه قد بترت، ظل لأيام بعدها و كلما فرك جلد ساقه تتناثر منه الرمال.
ولأنني تشربت غواية الحكي، بذاكرة فوتغرافية لا تنسى مشهدا أو ذكرى،أردت قصة حقيقية أحكيها انا أيضا،أردت مغامرة أقصها على طلابي الصغار بالمدرسة، قصة تحمل معاني الأمل،التفاؤل،الانتصار.
التحقت بالجامعة وانا أضع في مخيلتي صورة رأيتها في الأفلام القديمة،تلك الحياة الغنية،والنقاشات الاجتماعية والسياسية، تخيلت انني سالتقي "فهمي عبد الجواد" الشاب الجامعي الثوري في "بين القصرين"أو " زينب" في الكرنك .
المظاهرة الوحيدة التي حدثت في حياتي الجامعية تمت وانتهت ،بينما كنت خارجا اتمشى مع صديقتي في "محطة الرمل".
ربما لذلك كانت البطولة في حكاياتي للأمكنة وشخصيات الحياة،للبيت والشارع وساعات السفر،للأشياء والفراغات الصغيرة المظلمة.
لكنها قصص حملت مشاعر ذلك الجيل،الذي ربما لم يعد يشعر بالأمان،جيل تحركه الانتصارات الشخصية،والتحقق البسيط على مستوى الحياة الخاصة،جيل رأى أعظم انتصارهو مبارة كرة قدم بين فريقين، وأكبر صراع هو تبادل الاتهامات مع دول عربية،كان يتغنى بوحدته معها في السابق.
بطلة "بأقل قدر من الضجيج"وهي القصة التي اخترت عنوانها ليكون عنوانا للمجموعة كلها،لم تكن سوى طفلة حالمة مدندنة، تتهاوى أحلامها البسيطة فجأة حين يطيح بها أحد الصغار المارين بشارع خال،تسقط الصغيرة على رأسها،تنزف جرحا داميا بالرأس، وآخر بالروح والقلب ،حينها تفقد تماما إحساسها بالأمان،رغم أن ما حدث لها كان عاديا ومكررا وبأقل قدر من الضجيج.
الطفلة التي كنتها،كانت تكبر بينما تناضل قدرها الأنثوي بعناد ربما ورثته من برجها الفلكي، وتحلم دائما بالانفلات إلى شوارع أرحب، وآفاق أكثر اتساعا.
الطفلة التي تعبت من الصراعات، سافرت إلى بلدة أخرى،وحين أوشكت على النسيان،على الاستسلام لحياة عادية خالية من الأحلام الكبرى، حين توقفت عن ترديد " الشارع لنا ..إحنا لوحدنا " ، حين اكتفت بمحاولات التحقق الذاتي على المستوى المهني والمادي،حين استبدلت اغاني "الشيخ إمام" بكليبات "إليسا وعمرو دياب"،حين تذكرت بأسى أصبح يغلف كتاباتها أهازيج فرقة " الحب والسلام " وهي تغني للوحدة بين الإسلام والمسيحية "صاحبي كان صاحب بجد ..كان بريء فوق أي حد ..مستحيل يبعدنا حد ..لو بأصلي الجمعة ..ولا صاحبي بيصلي حد" ، بينما تطالع أخبار وصور واحداث تفجيرات "كنيسة القديسين" ، بمدينتها البعيدة المسالمة. نفس المدينة التي عاينت حادثا آخر منذ ما يقرب من عام، وفاة الشاب السكندري"خالد سعيد" جراء عنف ووحشية رجال الشرطة معه.
أخبار منعتها من الابتهاج بصدور كتابها الذي انتظرته طويلا ، مجموعتها القصصية الأولى" خجلت من فرحتها بها وهي ترى أحد أحلامها الأثيرة يتحقق أخيرا،فتكتب في الإهداء " ألم أقل لكم ؟".  في استحياء تتصل بصاحب دار النشر،وبخجل تعلن عن كتابها على صفحات الفيس بوك، وعلى نفس الصفحات تتعرف أخبارانتحار "بوعزيزي"بتونس ، الأحداث الجديدة تجبرها على اللهاث، "بن علي" يرحل، صديقتها التونسية تتضطر لإلغاء سفرها إلى تونس خشية الاضطرابات الحادثة،ومن مصر تصلها الأخبار،معرض الكتاب يوم 26، جهزي نفسك لندوات وحفلات توقيع، تحجز بلهفة تذكرة السفرإلى مصر،لهفة لم تشعر بها منذ زمن،في الحقيقة إجازاتها الأخيرة إلى مصر كانت تفقد بهجتها منذ الأيام الأولى، حتى أنها كانت تقدم موعد العودة إلى "الكويت"، لا تتحمل البقاء في مصر أكثر،كل ما حولها،يصيبها بالخوف والغضب، الناس والأسعاروالمعاملة السيئة.
على الفيس بوك دعوة للتظاهر يوم الخامس والعشرين من يناير،تسخر منها بينها وبين نفسها في البداية ،لكنها وفي اعماقها،تشعر بالحزن والسخط ،لن تستطيع المشاركة،فموعد سفرها في التاسع والعشرين، لكنها تتابع الأخباربشغف،تقرا التعليقات، تتسوق من أجل حفلات التوقيع، تلتقي بعض الأصدقاء من الكتاب بالكويت،حضروا لمؤتمر مجلة العربي،تمنحهم اولى نسخ المجموعة،تعدهم ويعدونها،"سنلتقي في القاهرة ".
وتندلع الثورة ،الثلاثاء25 يناير،تلتصق عيونها بشاشة التلفاز،تطالع الفضائيات بلهفة وخوف وأسى،الآلاف يخرجون،في القاهرة والإسكندرية والسويس،القنابل والغازات والصرخات، تلمحه ابن بلدها،يواجه سيارة المطافيء التي تغرقهم بالمياه،فتتوقف امام بسالته،تصرخ في لهفة ،"جدع يا ولد ".
الأربعاء 26 يناير،استمرار الاشتباكات، العنف مرة أخرى،والصوت يعلو والأعداد تقل هنا وتزيد هناك، الخميس آخر ايام العمل، تتشاجر مع زميلتين ترددان عبارات الخنوع واليأس .
تسألها أخرى ؟ هل مازلت مصرة على السفر؟
في المساء ،تعد حقيبتها، تملؤها ثم تفرغها عدة مرات،التلفاز يعمل بأقصى طاقته،والحاسوب أيضا،أخبار وأغاني وطنية . تتنقل بين غرفة الجلوس وغرفة النوم،إعداد الحقيبة يستغرق طوال الليل ،في النهاية تعيد نصف الملابس والأغراض إلى مكانها بخزانة الملابس.
على الفيس بوك جروب جديد"كويتيون من أجل مصر"،تشترك فورا،تقرا تعليقات المشتركين بعينان تمتلآن دموعا،تكتب تعليقا ."أثبت هذا الجروب ان الشعوب العربية متحدة،ولها قلب واحد ينبض بنبض واحد، يبدو ان حكامنا هم من صنعوا الفرقة بيننا".
الساعة الواحدة صباحا بتوقيت الكويت،يخرج "الرئيس مبارك أخيرا "لإلقاء خطابه الأول بعد ثلاث أيام وليال دامية،يشرع في الحديث،ومع كل عبارة ينطقها،تعليق عليها في صفحة الجروب،الكويتيون أيضا ساهرون مثلنا،يتابعون بنفس اللهفة والترقب.
وفي الصباح ،تنقطع كل الاتصالات بمصر،الهواتف والانترنت،مصر أصبحت دولة معزولة في لحظات،هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس السؤال يتردد، هل ستسافرين؟
الفندق الذي حجزت فيه،يقع على بعد خطوات قليلة من ميدان التحرير الذي تراه على شاشات التفاز كساحة معركة حقيقية.
هاتفها لا يتوقف عن الرنين،نفس الرجاء والتحذير،لا تسافري،معرض الكتاب تم إلغاؤه،لن يكون هناك كتاب، أو ندوات،أو حفلات توقيع .
تغلق الهاتف وقد ازدادت تصميما على السفر،كل ما تخشاه إغلاق المطار،أو إلغاء الرحلات الجوية إلى مصر،تحذير آخر"ربما تستطيعين الذهاب،لكنك قد تحتجزين هناك ،ربما يفوتك موعد العودة،فتخسري سنوات من العمل في البلدة الأخرى.
تتأكد من إعداد الحقيبة للمرة الأخيرة ، الأهم،جهاز الحاسوب المحمول،والكاميرا،يجب أن تسجل كل اللحظات صوتا وصورة.
في المطار تستخدم "الفيس بوك " للمرة الأخيرة قبل ركوب الطائرة،القلب لا يتوقف عن الخفقان ،الخوف واللهفة معا هما الشعوران المسيطران، تتفقد حقيبة يدها ، احضرت بعض النسخ القليلة من مجموعتها القصصية ، تفكر بينها وبين نفسها "لو نجحت الثورة سيتغير شكل الأدب والثقافة في مصر". تصل أخيرا،الطريق من المطار إلى فندقها في وسط البلد يبدو غريبا وغير قابل للتصديق،الدبابات بالشوارع ،والسيارات قليلة وسريعة " أتلك هي القاهرة التي تعرفها؟

تنهي إجراءاتها بالفندق سريعا،لا يشغل بالها سوى شيء واحد. "نزول الميدان" من نافذة غرفتها ،تطالع الميدان ،في مواجهة نافذتها تماما مبنى الحزب الوطني مازال يحترق، تحمل هاتفها المحمول ،والكاميرا،خطوات مرتبكة وخائفة حتى تصل، المشهد كان أكبر من الوصف بالنسبة لها ،وهي التي احترفت التصوير بالكلمات، الهتافات والنداءات، المسيرات بالمئات، تلمح صديقا تعرفه،تشير إليه،وفي دقائق تنضم إلى الحشد الأليف،شعور جديد بالأمان والدفء يتسلل إليها،تردد مع الكل بصوت مبحوح مرتجف في البداية "بلادي بلادي ..لك حبي وفؤادي"، صوتها يرتفع، وتشرق بملامحها ابتسامة هجرتها منذ زمن، أيام كثيرة ومتوالية قضتها في الميدان،كانت تلتقي مصادفة بكل معارفها من الأدباء والكتاب، لم تحزن لألغاء المعرض أو حفلات التوقيع،كان لضجيج الحرية وصخب الهتافات لحنا عذبا يتراقص على نغماته فؤادها .
قررت :" سيكون حفل التوقيع الأول بقلب الميدان "
وسيكون "بأكبر قدر من الضجيج"
جيهان عبد العزيز

تم نشر هذا المقال بجريدة أخبار الأدب الأربعاء 18 يناير 2011م

هناك تعليق واحد:

العنقاء يقول...

واضح ان فيه مشكلة في التعليقات ابعتوا لي على إيميلي
gogonsr@yahoo.com